فالتسليم لله تعالى هو وحده الكفيل بالقضاء على كل مطالبة تخالف النص وتستند إلى ما يعرف بحقوق الإنسان, ويجد المتحمسون لها أصلاً في مقاصد الشريعة العامة, لأن عدم التسليم الحق هو الذي يؤدي إلى محاولة لَيِّ أعناق النصوص أو تعطيلها من أجل موافقة الهوى دون أن يكون هناك داعٍ للتأويل أو التعطيل.
ومن تتمة الحديث عن عظيم الابتلاء بمصطلح الحرية: تطرف البعض في استخدامه؛ ومن ذلك أن منهم من جعله مقصدًا من مقاصد الشريعة ينْضاف إلى حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض, مع أننا لا نجد هذا المصطلح في نصوص الشريعة ولا في اللغة العربية بأسرها يطلق إلا على ما يقابل الرق, والشريعة تحيط الإنسان بأحكامها الخمسة من الوجوب والتحريم والكراهة والندب, وليس ثم خيار مطلق إلا في الإباحة, وحتى هذه نجد أن الخيار فيها غير مطلق؛ فإن المباح الواحد لا يكون مباحًا إلا باعتبارات ربما تكون متعددة؛ فالنساء مباحات للرجل ما عدا المحارم منهن، ولا تتم الإباحة إلا بعقد ومهر، وحين يضم الرجل أربع نسوة تحرم عليه جميع نساء العالمين، وتحرم مع المرأة الواحدة أمها وأخواتها وخالاتها وعماتها.
والأكل كله مباح إلا إذا كان مسكرًا أو مخدرًا أو مفترًا أو غير مذبوح وغير مذكور الاسم عليه وليس سبُعًا أو ذَا نابٍ أو خبيثًا أو خنزيرًا أو دخل في تركيبه شيء من ذلك.
والبيع كله حلال إلا إذا كان بيع مال بمال أو حيلة على بيع المال بالمال أو بيع مجهول أو غائب أو غير مقدور على تسليمه أو غير موصوف بوصف منضبط ولا بيع منابذة ولا ملامسة ولا جلبًا متلقًّى من الركب أو بيع حاضر لبادٍ ولا بيع غرر ولا غبن ولا تدليس ولا بيع نسيئة في الأصناف الستة وما شابهها ولا بيع تلجئة ولا غير تام الملك, إلى آخر ما يُذكر هناك.
نعم، نحن نشعر بكفاية الإسلام وبالراحة في تعاطينا لأمور الحياة وفق تعاليمه، لكن ذلك ليس للحرية بل لما في شرف الاستعباد لله تعالى من الفرج واليسر وصلاح أمر الدنيا بصلاح الدين.
وقل مثلَ ذلك في الفكر؛ فإن المرء مطالب بالنظر إلى الكون والوجود بجملته وتفاصيله وفق الرؤية الإسلامية وبالمنظار الشرعي لا غير.
وممن تطرَّف في الحرية من جاء بهذا الاصطلاح الغربي نفسه فطالب بالليبرالية الإسلامية، والغالب على هؤلاء أنهم غير متحمسين للتسليم للإسلام، وإنما يحاولون ترويج معاناتهم الهوائية، نسبة للهوى لا للهواء، بإضافة الإسلام كتذكَرة عبور إلى مجتمعاتنا لا أكثر من ذلك.
الوحي بنوعية- الكتاب والسنة - نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا كل الناس وكل المؤمنين به، وكما أنهم يؤمنون به إجمالاً وتفصيلاً فإن خطابه تعالى لهم إجمالاً وتفصيلاً، وكما أن كل الأمة مجتمعةً مخاطبةٌ بالوحي فإن كل فرد من أفراد الناس مخاطب على حدة بهذا الوحي, والكل مطالب بتدبره وتأمل أوامره ونواهيه، ليس ذلك لأحد دون أحد، العلماء والعامة على حد سواء «يقول تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (ص:٢٩)، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} (النساء:٨٢)، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد:٢٤).
وتدبر القرآن لا يكون صحيحًا إلا بقراءته كاملاً وردِّ بعضه إلى بعض وتفسير بعضه ببعض، وكذلك السنة لا يكون تدبرها إلا بردِّ بعضها إلى بعض وإلى القرآن.