وما يُروَّج له اليوم في أوساط أمتنا عن الديمقراطية يصدق عليه ما ذكرنا عن التجربة الاشتراكية البائسة، فإن جوانب كثيرة من الديمقراطية لم تُوضَّح للأمة، لا من جهة حقيقتها ومفهومها الذي هي عليه بالفعل، ولا من جهة تداعياتها بعد التطبيق، تلك التداعيات التي أثمرت إشكالات كبيرة لم تزل المجتمعات التي انتشرت فيها تعاني آثارها، كما سترى في هذه المقالة موجزاً بعون الله، وبشهادة الشهود من أهلها.
ولنعرض للديمقراطية من هذين الجانبين:(حقيقتها، وآثارها بعد التطبيق) بإنصاف ومصداقية، لنقف على واقع الديمقراطية البعيد عن الدعاية المضللة، وصيحات الحاجبين للحقيقة.
فعن الجانب الأول المتعلق بحقيقة الديمقراطية يقال:
الديمقراطية لما كانت تعني باختصارٍ (حُكْم الشعب) - سواء في وضعها البدائي عند اليونان أو في تطبيقاتها المعاصرة - صار الشعب عندهم هو مَصْدَر السلطات. بما فيها أهم وأكبر السلطات، وهي السلطة التشريعية، التي تعد في الإسلام خالص حق الله وحده لاشريك له، وبذلك أصبح الشعب في الوضع الديمقراطي المرجع الوحيد في التحليل والتحريم، فالمحَرَّم ما حرمه الشعب، والمباح ما أباحه، بقطع النظر عن وجود حكم شرعي مغاير بالكُلّيّة لاختيار الشعب في القرآن والسنة وإجماع الأمة عبر القرون. فكما أن من بدهيات المسلمين أن ماحرمه الله فهو الحرام المرفوض وما أباحه فهو المباح، فإن منطق الديمقراطية يقول: ما أباحه الشعب فهو المباح وإن حرمه الله، وما منعه الشعب فهو المرفوض، وإن أباحه الله!
لما كانت الديمقراطية تعني هذا بكل وضوح سعى كثير من الخالطين لها بالإسلام إلى إخفاء هذا الجانب الخطير منها، وركزوا على جوانب يرون أنها مشرقة في الديمقراطية، مصحوبة بعرض أوضاع مغلوطة - ومرفوضة شرعاً- في ممارسات الأفراد أو الحكومات داخل أمّتنا اليوم، لتكون محل مقارنة بين مجتمعاتنا وبين المجتمعات الغربية، هكذا - بكل سهولة - تُصوَّر الأمور بهذا التصوير غير الأمين، وكأن الديمقراطية جملة من الأخلاقيات الجميلة البعيدة عن أي منحى عقدي ضال أُسِّست عليه، مع أن هذا خلاف الواقع تماماً، فإن المعرِّفين للديمقراطية المعاصرة في البلاد الغربية من أصحاب التوجّه الأيديولوجي - الذي يمثل الوجه الحقيقي للديمقراطية - يؤكدون أنها تنبثق من إطار ذهني مبني على افتراضات، منها الإحساس الدائم بالرغبة في التغيير. وهذا التغيير الذي ينبغي أن يكون عليه الديمقراطي لابد أن يشمل عندهم (القيم والمبادئ)! والسبب في هذه الوجهة المروِّعة لا يقل خطورة عنها، إذ صرّح أصحاب هذا التوجه أن السبب هو أن البِنَى الاجتماعية لا تُبنَى على قواعد ثابتة أصلاً حتى تستقر عليها المبادئ والقيم، ولذا فإن الأفراد عندما يقررون أن شيئاً ما هو الحق والعدل فهو الحق والعدل، وهذا يعني أن الحق والعدل الذي يشيع في المجتمع الديمقراطي في وقت ما يمكن بكل سهولة أن يتغير لاحقاً، إذ لا يوجد ما يقبل الثبات، بل الأمر خاضع للمتغيرات الاجتماعية المحيطة بالديمقراطي؛ وبناء عليه فإن المجتمع ذا المنظور العقدي الأخلاقي - كالمجتمع المسلم زمن النبوة - يستحيل عندهم وبلا أدنى تردد أن يُصنَّف ضمن المجتمعات الديمقراطية. وذلك عائد إلى أن الديمقراطية إنما تُبنَى على المنظور العلماني التعدُّدِيّ للمجتمع، كما أوضح (ميشيل نوفاك) في كتابه: (روح الديمقراطية) ومِثلُه (كرن شيلدز) الذي أكّد أن الديمقراطية نظام سياسي علماني، فالدين لا علاقة له بالديمقراطية.