للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك فإن الإنسان إذا تصدق بأنفس ماله عنده اجتمع في هذا الفعل حب وبغض، فهو يحب ماله طبعاً، ويحب التخلي عنه والصدقة به شرعاً، كما قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:٩٢] وقال تعالى (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) [البقره: ١٧٧] وقال تعالى يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) [الإنسان:٨].

وأما قول بعضهم (إن الحب والبغض عمل قلبي يهجم على القلب لاحيلة فيه، وبالتالي يعفى عن حب الكفار) فمؤدى كلام هؤلاء إخراج الحب والبغض عن أصل التكليف، وبالتالي إبطال كل أوامر الحب والبغض التي أمر الله بها ورسوله، فصار أمر الله بحبه، وحب رسوله، وحب الأنصار، وحب آل البيت، وغيرها من الشرائع، كلها لغو وعبث لاقيمة له لأن الحب والبغض شأن قلبي يهجم على الانسان ولاحيلة له فيه.

بمعنى أن قول النبي مثلاً في صحيح البخاري (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده) لو جاء شخص وقال الحب عمل قلبي يهجم على المرء بلا حيلة، ولا أجد في نفسي حب النبي أكثر من والدي وولدي؟! فهل هذا مقبول؟!

ولذلك لما جاء عمر وأخبر النبي بما في نفسه لم يقبل النبي هذا الكلام، وصحح له هذا الفهم، حتى ارتقى إيمان عمر، كما في البخاري (يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر، فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر).

فعمر حين قال (لأنت الآن أحب إلي من نفسي) إنما جاهد نفسه حين عرف ثواب الحب، فالحب والبغض يحصل بالمجاهدة.

ولذلك فإنه لما أبغض بعض الناس بعض التشريعات بغضاً دينياً جعل الله ذلك منهم ردة وخروجاً عن الإسلام ولم يقل الحب والبغض شعور يهجم على القلب لاحيلة له فيه! كما قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:٩]

وأما قول بعضهم (بعض الكفار يحسنون إلينا، فكيف نكرههم وهم يحسنون إلينا، ولايوجد إنسان سوي إلا وهو يحب من أحسن إليه، ويجد ذلك في نفسه ضرورة). فهؤلاء المعترضين بمثل ذلك لم يتفطنوا إلى أن الحب هو حصيلة أفعال المحبوب، والبغض هو حصيلة أفعال المبغوض، فهذا الكافر أحسن إليك بمال أو هدية أو ابتسامة لكنه أساء إلى ربك بالكفر، وربك أغلى عليك من نفسك، ولذلك فإساءته لك أعظم أضعافاً مضاعفة من إحسانه المادي إليك، إلا إن كانت نفسك أغلى عليك من ربك وخالقك، وصرت ترى أن من أساء إليك فهو مستحق للبغض، لكن من أحسن إليك واساء لخالقك فهو مستحق للحب، فقائل هذا قد جعل نفسه أعظم من الله ولاحول ولاقوة إلا بالله، وإلى هذا المعنى أشار السبكي إشارة بديعة للغاية حين قال في فتاواه:

(والذي يظهر أن النفوس الطاهرة السليمة لا تبغض أحدا ولا تعاديه إلا بسبب، إما واصل إليها، أو إلى من تحبه أو يحبها, ومن هذا الباب عداوتنا للكفار بسبب تعرضهم إلى من هو أحب إلينا من أنفسنا) [انظر فتاوى السبكي، ٢/ ٤٧٦]

فمن اعترض بالقول أنه ليس من المروءة أن أبغض كافراً أحسن إلي؟ فيقال له: بل ليس من المروءة أن تحب كافراً أساء لخالقك لمجرد أنه رشاك بلعاعة من الدنيا، فخالقك قد أحسن إليك أضعاف أضعاف ما يقدمه لك هذا الكافر، بل لانسبة للنعم التي أعطاك إياها خالقك ولعاعة الدنيا التي أعطاك إياها هذا الكافر.

<<  <  ج: ص:  >  >>