فحالهم كحال الذي بلغه: أن الحاكم أصدر مرسوما بمنع البيع والشراء بعد الثانية عشرة ليلا، وأعلن ذلك على الجميع، وتأكد بمراسيم أخرى، ثم مر يوما فرأى صيدلية تفتح أبوابها في الواحدة صباحا، ثم تكرر منه رؤية ذلك، ومر فوجد دكانا كبيرا يبيع في الثالثة صباحا، إلى جانبه آخر صغير كذلك.
وفي الأثناء أخذ كتابا قديما، فقرأ فيه: أن الناس في هذه البلدة يتبايعون ليلا ونهارا.
فاستنبط من ذلك: أن المرسوم قد ألغي. والدليل: هذه المحَاَلّ المفتوحة، وما في الكتاب القديم من خبر. بل زاد على ذلك: عجبه من إحجام البقية عن استغلال هذا الإذن، والعودة لمنافع البيع والشراء.
وما درى هذا: أن تلك المحال مستثناة من المرسوم، لحاجة الناس الدائمة، والمرسوم على حاله من المنع. أما الدكان الصغير، فهو مخالف يستحق العقوبة، وما في الكتاب القديم، كان قبل الأمر.
والقصد: أنه ما من أمر سواءً كان إلهيا، أو بشريا. وإلا ويعتريه استثناءات للحاجة والضرورة، وهناك من يخرقه ويخالفه قصدا، ومن يخالفه سهوا ونسيانا. فلو كانت هذه الأحوال المخالفة -بعذر أو بدون عذر- سببا كافيا لإلغاء الأمر، لألغيت الأوامر كلها، وما ثبت أمر ألبتة.
وهكذا أحكام الشريعة، فيها أمر عام، يتأسس بالنصوص الصحيحة والصريحة في المعنى، كنصوص منع الاختلاط، ثم يطرأ عليها أحوال استثنائية، أو يوجد من يخالفها، لكنها لا ترقى أن تبطلها.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط. ثم إن ابن عمر مرة ارتقى جدارا، فرأى النبي عليه السلام يقضي حاجته مستقبلا أو مستدبرا القبلة. فذهب العلماء إلى قولين في المسألة:
الأول: أن هذا الفعل تخصيص لعموم النهي. فإذا كان في فضاء منع، وإذا كان دون القبلة حاجز جاز.
الثاني: أن القول مقدم على الفعل؛ لأن القول مقصود لذاته، ونحن مأمورون بطاعة قوله، وأما الفعل فقد يكون سهوا، وقد يكون عمدا، فلما احتمل، وتعذر الترجيح، بقي النهي على عمومه.
وهكذا لم نجد بينهم من عارض وضرب قوله بفعله، فعطل الأمر بالفعل، فأجاز بين البنيان مطلقا، لكن الذين أباحوا الاختلاط خالفوا سبيل العلماء الراسخين، فضربوا قوله بفعله ..
* * *
وهذا يتبين بما يلي:
إن نصوص المبيحين لاختلاط الرجال بالنساء ضعيفة في دلالتها، وهي كذلك في غير محل النزاع ..
فأما كونها ضعيفة الدلالة، فلأمور أربعة هي: أنها عملية، متشابهة، مبيحة، على البراءة الأصلية.
الأول: أنها عملية.
ليست بقولية، والمعلوم عن أهل الأصول والفقهاء والمحدثين، من حيث المبدأ والأصل:
أن القول مقدم على الفعل، وأن ما كان أمرا بالقول فهو مقصود لذاته؛ لأنه موضوع للدلالة على الأمر، بلا خلاف، وهو يدل على الوجوب بنفسه من غير واسطة.
والدليل يؤكد هذا، فإن الله تعالى يقول: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم"، فقال: {عن أمره}، والأمر هو القول، قال تعالى: "ولكن حق القول مني: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين".
فأما الفعل فإنه قد يكون مقصودا، وقد لا يكون مقصودا، وقد يكون عمدا، وقد يكون سهوا، كما تقدم في مثال استقبال القبلة في قضاء الحاجة، فلا يأخذ منه حكم ابتداءً، لكن القول يؤخذ منه. فقول النبي صلى الله عليه وسلم يتعدى إلى غيره بنفسه، بخلاف فعله، فلا يتعدى إلا بدليل. فإذا اجتمعا كان التمسك بقوله، وحمل فعله على التخصيص ونحوه هو الواجب.
قال الزركشي في البحر المحيط ٦/ ١٧٧:
"أن يكون أحدهما قولا والآخر فعلا، فيقدم القول؛ لأن له صيغة، والفعل لا صيغة له".
والكلام نفسه بحروفه ذكره الشوكاني في إرشاد الفحول ٢/ ٣٩٣.