إن أخشى ما أخشاه على هؤلاء الإخوة الفضلاء أن يكون الحق السياسي والإنساني دافعًا لهم، من حيث لا يشعر بعضهم، إلى تحطيم الشريعة، وتكرار ما حصل بشكل متكرر في تاريخنا الإسلامي بل والإنساني، وذلك من خلال لجوء الإنسان المقهور إلى تحطيم أقل العدوين خطرًا عليه، المرجعية الدينية لا السلطة السياسية. فهو لا يمتلك الشجاعة الكافية لمواجهة السلطة السياسية، فيتوجه بسهامه إلى المرجعية الدينية بل للشريعة نفسها، تحت أسماء مختلفة مثل: السلفية، أهل السنة والجماعة، تطبيق الشريعة.
ثم يجعل هدفه الأول، أو سمه التكتيكي، نقض وتفكيك المرجعية الشرعية التي تُعطي -كما يزعم- السلطة السياسية القاهرة الشرعية الإلهية، ففي هذه المرحلة، كما صرح البعض، يجب التوجه لتفكيك ونقد ونقض السلفية كإطار مرجعي شرعي، أما السلطة السياسية فلا يشملها الآن التفكيك، لأنه كما يُقال فكك الإطار وسوف تسقط الصورة حتمًا. لكن ماذا لو كانت النتيجة تحطيم الإطار ثم بقاء الصورة منحوتة على الجدار!
إن العاقل يفهم لماذا أصبحت "سيادة الأمة" هي السلطة العليا في الغرب، فالغرب يفصل بين الدين والدولة، فلا بد حينئذ من إقرار سيادة الشعب، إذ أن الدولة ليست دينية ولا محكومة بشريعة الله. لكن الدولة المسلمة مهمتها حراسة الدين وحراسة الشريعة، لا تخيير الشعب أو الاستناد إلى اختياره في تقرير شرعية أو عدم شرعية الشريعة.
في مبدأ "سيادة الأمة" تكون الأمة أو "الأكثرية" هي السلطة العليا التي لا تعرف سلطة أعلى منها، حتى الشريعة نفسها، فلو قررت الأكثرية إباحة المحرمات وتحريم الحلال، بل نبذ الشريعة جملة وتفصيلاً فلها الحق في ذلك، فهي السلطة العليا ولا يوجد أعلى منها. أو كما عبر أحد الفضلاء من أنصار مبدأ "سيادة الأمة" بكل وضوح أنه إذا "اختارت الأمة غير المرجعية الإسلامية؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها".
وفي الأنظمة السياسية الوضعية تكون الصفة الأصلية للسيادة هي سلطة وضع القوانين، أي التشريع، ولا يُمكن أن يُفرض عليها أي التزامات من قبل أي سلطة، ولذا لا يُمكن أن يكون هناك أكثر من سيادة، والسيادة لا تقبل التجزئة، فالسلطة العليا واحدة، وهي أيضًا غير قابلة للتنازل، فلا يحق لصاحبها أن يتنازل عنها. وأظن أن بعض الذين يرون "سيادة الأمة" خلطوا بين السيادة كسلطة عليا لا شيء فوقها، وبين بعض مهام الأمة السياسية في الإسلام، فطردوا سلطة "سيادة الأمة" حتى جعلوها-دون مبالغة- نفس سلطة الله سبحانه وتعالى في التشريع.
إن الأمة ليست حرة بمجموعها أو بإفرادها بل الجميع مقيد بأحكام الشريعة لا يسعه الخروج عنها فضلا أن يجعل الشريعة محلا للاقتراع. فالشريعة حاكمة على المسلم فردًا أو دولة لا يسع أحد منهم سن قانون يُخالفها فضلاً عن أن يطرحها بالكلية!
قال الحق سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:١٠] أي أن السلطة العليا والسيادة هي لحكم الله، وقال: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) أي المرجع السيادي لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقل سبحانه فحكمه إلى الشعب أو "سيادة الأمة"، ولم يقل ردوه إلى "سيادة الأمة"، فضلاً أن يقول سبحانه وتعالى إذا "اختارت أمتكم غير كتابي وسنة نبيي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها".
في الختام، هذه كلمة موجهة للعلماء وطلاب العلم للالتفات إلى أهمية هذه المواضيع وخطورة الواقع وما يفرزه على الشباب والنابهين، وهذا يحتم على العلماء وطلاب العلم أن يتصدر اهتمامهم هذا الموضوع دراسة وتحليلا وتقييماً ونقدًا، فأثمن ما لدى المسلم هو شريعة الإسلام، وهي مقدمة على أي مصلحة دنيوية، وإذا لم يوجد من العلماء وطلاب العلم من يتصدى بعلم وحكمة لمثل هذه المواضيع فإن الوضع خطر، وهو كما قال "ابن قيم الجوزية" أنه حينما تنزل بالأمة فتن عقائدية أو فكرية ولم يجدوا من العلماء فكرًا أو سيرة يتخذونه نموذجًا، فإن أذكياء الأمة قد يصبحون زنادقة.
وحقيقة لا بد من الاعتراف بها هنا، وهي أنه بسبب قهر الواقع واستلاب الحقوق والظلم وعدم وجود نماذج دينية نزيهة كافية، فإنَّ أعداد الشباب الذين لديهم الاستعداد "لقبول العدل والحرية والمساواة تحت أي مسمى" تزداد، وأصبحت "الحرية" و"العدالة" و"المساواة" الثالوث المقدسة لدى بعضهم، وهي مقدمة على الشريعة نفسها، والله المستعان.
قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: ٤٩].