وأما الإمام ابن القيم - رحمه الله - فلم يكتف ببيان "تحريم الاختلاط" شرعاً كما ذكره غيره من الفقهاء، بل عقد له فصلاً خاصاً في كتابه المعروف "الطرق الحكمية" صدّره بقوله: (فصلٌ: ومن ذلك أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفرج ومجامع الرجال) (الطرق الحكمية، ٢٣٧).
ثم شرح الإمام ابن القيم مخاطر الاختلاط معززاً ذلك بآثار عن السلف كعمر بن الخطاب والامام مالك والامام أحمد وغيرهم.
واستمر تأكيد ابن القيم على تحريم الاختلاط في كتابه الآخر "إعلام الموقعين" وهو الكتاب الذي برزت فيه روحه الأصولية ورهافة ذوقه الفقهي، وبالمناسبة فهذا الكتاب من أميز الكتب التراثية في التدريب العملي على مهارات "تحليل علل الأحكام"، حيث يقول رحمه الله فيه: (النساء لسن من أهل البروز ومخالطة الرجال) (إعلام الموقعين، ٢/ ١١٤).
وأما المصادر التي تعين المعتمد في المذهب الحنبلي في مجال (القضاء والفتيا) فهما كتابي "شرح منتهى الإرادات" و "كشاف القناع"، وهما الكتابان المعتمدان تاريخياً في القضاء الشرعي السعودي، وقد كان صدر باعتمادهما في القضاء الشرعي عدة قرارات رسمية، وفي هذا الكتاب - أعني "كشاف القناع"- يقول البهوتي رحمه الله: (ويمنع فيه اختلاط الرجال والنساء، لما يلزم عليه من المفاسد) (كشاف القناع، ٢/ ٣٦٧).
وأما في علم (الآداب الشرعية) فإن من أوسع كتب الحنابلة فيها كتاب الإمام السفاريني الحنبلي "غذاء الألباب"، والذي شرح فيه منظومة الآداب الشهيرة لابن عبد القوي، وفي هذا الكتاب يقول الإمام السفاريني رحمه الله: (والمحمود من الغيرة صون المرأة عن اختلاطها بالرجال) (غذاء الألباب، ٢/ ٤٠٠).
- موقف الفقهاء المستقلين:
ثمة فقهاء آخرون لم يتمذهبوا ابتداءً بأحد المذاهب السنية الأربعة، ثم كان لهم وزن علمي داخل البحث الفقهي السني، ونأخذ نموذجاً لذلك العلامة المتفنن الشوكاني رحمه الله - الذي كتب أوسع شرح لأحاديث الأحكام المعروف بـ"نيل الأوطار"، وفي هذا الكتاب يقول الشوكاني رحمه الله: (في الحديث - أيضاً - تمييز مجلس النساء إذا حضرن مجامع الرجال، لأن الاختلاط ربما كان سببا للفتنة الناشئة عن النظر أو غيره) (نيل الأوطار، ٣/ ٣٦٢).
ولايمكن الإطالة بأكثر من هذه النماذج من المعالجات الفقهية، والمراد منها الإجابة على السؤال الأول الذي طرحه الفريق المنسوب إلى (البحث الشرعي) والمتعلق بإشكالية: هل تعرف المذاهب السنية الأربعة لفظ الاختلاط؟
وننتقل الآن إلى السؤال الثاني الذي طرحه بعض المنسوبين إلى (البحث الفكري) المتعلق بإشكالية أن الاختلاط نظام مرفوض جذرياً في الحضارة الغربية المعاصرة، ولايمكن أن يستوعب العقل الغربي المعاصر فكرة الفصل بين الجنسين في التعليم، مما سيسبب لنا حرجاً سياسياً ودبلوماسياً.
- تجربة المدارس غير المختلط في المجتمع الغربي:
لا يمكن استيعاب الواقع الغربي الحالي للمدارس غير المختلطة (المنفصلة) إلا بتصور عام عن الخلفية التاريخية لتطورات هذا االأسلوب التعليمي.
فمع تنامي هيمنة حركات المساواة في منتصف القرن الماضي -حيث كانت مزاج العصر- انتشرت المدارس المختلطة بشكل واسع جداً في المجتمع الغربي، وتعرضت المدارس غير المختلطة (المدارس المنفصلة) لنقد حاد باعتبارها جزء من التمييز على أساس الجنس، وأصبحت تلك المدارس المختلطة هي السمة الطاغية، وانتصر هذا النمط التعليمي حتى أن أحد الراصدين يرى أنه بعد العام (١٩٤٥م) لم يكن هناك إلا نقاش محدود جداً حول جدوى التعليم المختلط ( Weinberg,١٩٨١) .