للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يجب أن يتفهم العالِم وطالب العلم أن الوسيلة الإعلامية عندما تطلب مشاركته إنما هي تستهدف وضعه في سياق معين يحقق أهدافها، وأبسط هذه السياقات -في الوسائل ذات التوجهات الفكرية المخالفة- أن تكون المناسبة دينية، وتحتاج الوسيلة إلى تلبية الرغبات الدينية للجمهور، كما في كثير من البرامج التي تعقب صلاة الجمعة، أو تسبق صلاة المغرب في رمضان أو في يوم عرفة، وأعقد هذه السياقات ما يحدث عندما يعمل الإعلامي على إظهار العالِم في حديث أو فتوى عن (النمص) -أو ما شابه ذلك- في الوقت الذي تُسحق فيه بقعة من بقاع المسلمين، لتكون الرسالة غير المباشرة أبلغ وأقوى! وهكذا راجت مقولة (علماء الحيْض والنِّفاس).

لقد خسرنا إعلامياً -على الصعيد الديني- خسائر كثيرة تحت ضغط تغليب حسن الظن بالإعلامي على الفطنة في حماية الدعوة والفتوى وتمثيلهما خير تمثيل، وتغليب الرغبة الشخصية في المشاركة على تقدير المصلحة واستشراف الآثار، وتغليب الارتجال والسرعة على التخطيط والتروي، وهذا الاندفاع في هذه الاتجاهات الثلاثة قاد إلى تسليم "قوة الفتوى" إلى الصحفيين، وتزايدت حالات الاضطراب في الآراء الفقهية الرائجة بين عامة الناس.

الصحفي .. المفتي، ينطلق من امتلاكه صوراً متعددة للاضطراب والاختلاف بين آراء الفقيه الواحد وآراء مجموعة من الفقهاء؛ ليؤكد لجمهوره، أن الفتوى تتطور، وأنه يفتح حوارات لأهل العلم لتجلية الحقيقة والبحث عن الحكم الشرعي الصائب (عنده طبعاً!)، وأنه ليس لعالِم أن يزعم أنه يملك الحقيقة وحده، وأن هناك آراء فقهية أخرى حتى لو كانت لمبتدعة.

وفتوى الصحفي تتخذ مقدمة (كليشة) معروفة جديرة بتمرير أي فتوى يصدرها: (وتلك سنّة سار عليها الفقهاء والأئمة قديماً. فالإمام مالك، رحمه الله، كان يقول: كل إنسان يُؤخذ منه ويُردّ إلاّ صاحب هذا القبر. وكان بذلك يشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. والشافعي يقول: «رأيي صواب يقبل الخطأ، ورأي غيري خطأ يقبل الصواب»، بل إن الشافعي «عدّل» في آرائه الفقهية بعد رحيله من العراق إلى مصر، حين رأى اختلافاً في الحياة الاجتماعية بين كلا البلدين. ولا يعني ذلك أنه أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً، لكنه أعاد النظر في بعض اجتهاداته الفقهية التي استنبطها من الأدلة الشرعية؛ وفقاً لتغير البيئة والظروف، وهي نظرية فقهية يدرسها طلاب الكليات الشرعية، لكنْ قليل من يجتهد فيها)، ثم يأتي نص فتوى الصحفي، وأحسن الله عزاء المجتمع في العلم والعلماء.

<<  <  ج: ص:  >  >>