كان هؤلاء في بدء الأمر يعرضون ما عندهم بمداورة والتواء ولحنٍ في القول، وبصوت منخفض، وعلى استحياء، وفي مجالس خاصة، ثم تطور الأمرُ فأصبح بعضهم يُصرِّح بما عنده ولكن في مجالس خاصة أيضاً. وكان عددٌ من الدعاة وطلاب العلم يبلغهم ذلك، فتارة ينفونه عنهم حُسْنَ ظنٍّ بإخوانهم، وتارة يتوقفون، وأخرى ينصحون. ثم تطور الأمرُ أكثر، فأصبح بعضُ أؤلئك يصرِّح في حواراتٍ صحفية، أو فتاوى فضائية، أو مقالاتٍ (إلكترونية)، كلُّ ذلك كان يحصل والعلماء وطلاب العلم كانوا يغلِّبون حسن الظن بهم، ويؤمِّلون أوبتهم، ويطمعون في عودتهم. ورغم قلَّتهم -كما يعبرون هم عن أنفسهم- إلا أن تأثيرهم قد زاد، وما ذاك إلا لأن وسائل الإعلام قد فتحت لهم أبوابَها وقنواتِها، ولأن ما يطرحونه مما تستهويه الأنفس. ونسوا قول الله عزَّ وجلّ: {فَأَمَّاالزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}
فطفق العلماء وطلاب العلم يتهامسون فيما بينهم: أما آن الأوان أن نصدع بالحق ونبين أخطاءهم حتى لا يغتر بهم العامة؟
وكانت طائفة من أهل الثبات على المنهج تدعو إلى الرويَّة حفاظاً على وحدة الصف ولمِّ الشمل، لكن القوم استفحل أمرُهم، وتجاوز الخلاف معهم المسائل الفقهية المبنية على التيسير غير المنضبط بضوابط الشرع: كالقول بجواز الأخذ من اللحية بلا قيد، وجواز إسبال الثياب، وعدم وجوب الصلاة جماعة في المسجد، وجواز سماع بعض آلات المعازف كالطبل وغيره -وهي مسائل وإن قيل بها إلا أنها مرجوحة-، وكالقول بجواز الاحتفال بأعياد الميلاد والأوطان، بل وبمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقضايا متعلقة بالمرأة كالحجاب والنقاب والعباءة واختلاط الرجال بالنساء ... إلخ. تجاوز الأمرُ ذلك كلَّه إلى قضايا عقدية ومنهجية: كمسائل في نواقض الإيمان، والولاء والبراء، والتسامح مع المبتدع، وجعل الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة والجماعة، والدعوة إلى فتح الذرائع، وغير ذلك مما يناقض أصول أهل السنة والجماعة في العقيدة والاستدلال، كلُّ ذلك ضمن إطار ما يزعمونه من تجديد الخطاب الديني، وركوب موجة الإصلاح والتغيير بحجة استغلالهما قبل أن يستغلهما المُفسدون، وكأن الإصلاح والتغيير لا يكونان إلا بمسايرة الواقع، ومخالفة الشرع، والانفلات من التدين، وهذا عين ما يزعمه دعاة التحرير.
بل تطور الأمرُ عند بعضهم، فطالت كتاباتهم، وبلغت سهامهم الدعوة السلفية، ودعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، وأثاروا الشكوك حولها، وتجرأ بعضهم على كبار علماء هذه البلاد ولمزوهم.
وظلَّ السؤال يعيدُ نفسه: هل آن الأوان لنصدع بالحق ونبين خطأ إخواننا هؤلاء أم نظل ساكتين حتى تغرق السفينة، وتنهدم الصروح الشامخة التي بُنيت عبر عقود؟
والذي يراه الآن كثيرٌ من العلماء وطلاب العلم والدعاة أنه قد آن الأوان -إن لم يكن قد فات-، وأن عليهم أن يتداركوا الأمر ويفنِّدوا شبهاتِ هؤلاء الإخوة علناً كما نشروها علناً، وأن يصدعوا بالحق كما صدعوا هم بما يظنونه حقاً، فحديثهم عن كبار العلماء والمؤسسة الدينية وتأثيرها إنما ينصب على مدرسة الإمامين ابن باز وابن عثيمين -رحمهما الله- ومن سار على طريقتهما من العلماء وطلاب العلم والدعاة، وقد كانت طريقة هدى ورشاد، من غير ادعاء العصمة لهم من الخطأ.
لذلك وجب الصدع بالحق في وجه هذا التيار نصيحة لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وبياناً للدليل، ولمأخذه عند أهل النظر من أهل الرسوخ من العلماء وطلاب العلم، وحفاظاً على مكتسبات الأمة خلال هذه العقود، لكن ينبغي أن يكون ذلك برفقٍ وعدلٍ وعلمٍ دون تعصُّبٍ لأحد، وألا يشغلنا الردُّ عليهم عن الردِّ على أهل الباطل الصرف من المبتدعة والعلمانيين والليبراليين كما شُغِلوا هم -وللأسف- عن ذلك.
فيا علماء المسلمين، ويا طلاب العلم ابروا أقلامكم، وجهزوا صحائفكم، فإن كلمة الحق لا بد لها من سامع، وإن مقاومة الأخطاء المتكررة بالعلم، والبيان، وإقامة الحجة، عهدٌ عهده الله إليكم، فإن لم يكن الآن وقت ذلك فبالله عليكم متى يكون؟!
قال الإمام أحمد: إذا سكتُّ أنا، وسكتَّ أنت، فمتى يتبيَّن الحق.
أسال الله عزَّ وجلَّ أن يثبتنا على دينه وسنة نبيه، وأن يردَّ إخواننا هؤلاء إلى الحق ردًّا جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم