والردة عن الدين، والحَملُ على ذلك بامتحان المسلمين، وابتلائهم في دينهم. وأكَّدَ رَدَّه للمعنى المذكور من السائل بقوله:(وليس يقاتلهم على المُلْك). وقَوَّى هذا المعنى هنا لفظ الآية، وسياقها، وورود هذا المعنى في كتاب الله تعالى، وقول النبي ﷺ، وفعله.
فلقد بَيَّنت الآية معنى الفتنة في تَمامها، فقال تعالى ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ﴾ [البقرة ١٩٣]، وفي آية الأنفال ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ﴾ [الأنفال ٣٩]، فالفتنة هنا هي: الشرك، الذي لا يزول حتى يكون مُقابله، وهو أن يكون الدين كُلُّه لله. ثُمَّ إن سياق الآية حدِيثٌ عن الشرك صريحٌ، وأمرٌ بقتال المشركين، قال تعالى ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَوا فَلَا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة ١٩٠ - ١٩٣]، وقد نُقِلَ إجماعُ المُفَسِّرين على أن الفتنة في قوله تعالى ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة ١٩١]، هي: الشرك. (١)
ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١ - ٥]، فَجَعَلَ توبَتَهم من الشرك، سببًا للكَفِّ عنهم، وإخلاء سبيلهم. وهو ما بَيَّنَه حديثُ رسول الله ﷺ صريحًا في قوله: (أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دمائهم، وأموالهم، إلا بحق
(١) نقله الماوردي في النُّكَت والعيون ١/ ٢٥١، وقال: (وإنما سُمِّيَ الكُفر فِتنةً؛ لأنه يُؤدي إلى الهلاك، كالفتنة). وينظر: أحكام القرآن، لابن العربي ١/ ١٥١.