بد أن يكون عائدا ممن يستحق أن يعبده العقل. وما ذاك إلا من جمعك من هذه الأشياء، وأطلعك بالمعنى على امتلائها بالصنعة ونطقها بالحاجة إلى صانع صنعها، وعدم انفكاكها من الاستحالات. فإن وراءها محيلا يحيلها ومميزا يميزها بعد اختلاط بعضها ببعض. بينا ترى الماء سائلا هابطا، حتى تراه بخارا صاعدا. وبينا تراه بخارا صاعدا، حتى تراه ندا قاطرا هابطا. وبينا تراه في أعماق الأرض عابرا، حتى تشهده بساطا من الوشي على وجه التربة مائلا. وكان أديم الأرض صحائف، قد ملئت بفنون الطرائف، من الأخبار بالسالف والآنف، زهرها ونباتها ينطق بالفاعل، ويشهد بكونها على الصانع دلائل.
فنعوذ بالله من عيون شاخصة غير بصيرة، وقلوب ناظرة غير خبيرة، صور لا يتصور مبدأها ومنتهاها، وأشكال لا يعرف ممرها من مقرها، ولا اجتيازها من مأواها، ولا المتميز عنها ممن ساواها! فما الذي استفدنا من الوجود بعدم إذا أنكلت كل وجود لم أجد فيه سبب إيجادي وهو موجدي، وعدمت نفسي يوم أن كنت عادما لما وراء حسي؟ ما أحسن ما قال شيخنا أبو القاسم العارف عبد الصمد:((إن كنت لا أنظر فيما أنظر إلا ما أنظر، فلا نظرت! وإن كنت لا أسمع إلا ما أسمع، فلا سمعت! )) وهذا كلام من درجت له العبرة في النظر، والخبرة في الخبر؛ ودرج الطرق حتى أسرف، واستعمل أدوات المعارف حتى عرف. فهذا مقام الإنسانية. وإلا فالبهائم تسمع وترى، وإنما تميز الإنسان عنها بفهم ما جرى.