للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غيرَ أن الاستدلال بالحديث فيه نظر، إذ ليس فيه إلا إجابةُ دعائِهِما، وذلك لا يلزم منه وجوبُ حقٌ الداعي وأنه مظلوم، فإن الظالم قد يجاب دعاؤه على المدعو عليه المظلوم، ويكون ذلك بسبب ذنب يسبقُ للمظلوم فعله فيعاقبه الله بهذا.

وهذا لقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)} [الشورى: ٣٠].

ومما يدل على تقديم طاعتهما على المندوبات ما في مسلم، أن رجلا قال: يارسول الله، أبايِعُك على الهجرة والجهاد، فقال له: هل من والديك أحد؟ قال: نَعَم، كِلَاهما، قال: فتبتغى الأجْرَ من الله؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسِنْ صحتهما" (٣٢٣). فجعل عليه السلام الكونَ مع أبويه أفضلَ من الكون معه ومِنْ الجهاد في أول الاسلام. وَمع. أنه لم يقل في الحديث: إنهما منعاه، بل هما موجودان فقط، فأمَرَهُ عليه السلام بالأفضلِ. وهذا الحديث أحسنُ شيء في حَق الوالدين، وإذا قَدَّم عليه السلام حقَّهما على فروض الكفايات فأنْ يُقدَّمَ على النفلِ أوْلى وأحق. (٣٢٤) وحديث جُريج يروَى في بعض طرقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان جُريج فقيها لَعَلم أن إجابة أمّه أفضل من صلاته". وعلى التقدير يكون ذلك دليلا صحيحا.

ومما يدل على تحريم أصل العقوق قولُهُ تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} (٣٢٥). وإذا حرُمَ هذا حرم ما فوقه بطريق الأولى. ويدل على مخالفتهما (٢٣٢) أخرجه الإِمام مسلم رحمه الله في باب البر بالوالدين وأنهما أحق به، (من كتاب البر والصلة والأدب


(٣٢٤) وقد علق الشيخ ابن الشاط رحمه الله على ما جاء في هذه المسألة الخامسة بقوله:
جميع ما قاله القرافي في ذلك من نقل وغيره صحيح، غير قوله: "وإذا قَدَّم خدمتها على فروض الكفايات فعلى النفل بطريق الأولى"، فإنه لقائل أن يقول: ليس ذلك في النفل أولى، لأن تركه فرضَ الكفاية مع قيام غيره به لا تفُوتُ يه مصلحة، وترك النفل تفوت به مصلحة نك النفل، قال ابن الشاط: ويمكن الجوب بأن مصلحة النفل إنما هي مجرد الثواب، وكذلك مصلحة فرض الكفاية في حق من هو زائد في العدد على ما يحصل به المقصود من ذلك الفرض، لكن ثواب فرض الكفاية أعظم. فتتحققت الأولويَّةُ.
(٣٢٥) سورة الإسراء، الآية ٢٣، وقد سبق ذكرها والإِشارة إليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>