للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجواب أن يقال: هذا عطْفٌ وكلام محمولٌ على المعنى، كأن السائل قيل له: أحقُّ الناس وأولاهم ببِرك أمُّك، قال: فلمن أتوجّهُ بالبر بعدها؟ قيل له: توجَّهْ أيضا لأمك، فقوبل ما فُهِم منه من الإعراض عن الأم بالأمر بالملازَمة، إظهارا لتاكيد حقها، فقال: إذا توجهتُ إليها وفرغت فلمن أتوجه بعد ذلك؟ فقيل له أمك، فقوبل أَيضا ما فهم منه من الإعراض عن الأم بالأمر بالبر والملازمة، إظهاراً لتاكيد حقها، فصارت الأمُّ معطوفة على نفسها بنسبتين مخلفتين إلى رُتْبتين مخلفتين، والشيء الواحد إذا أخِذ مع وصفين مختلِفين كان كشيئين متباينين. فظهرَ لك بهذا أن ضابط ما يختص به الوالدان دون الاجانب، هو اجتناب مطلَق الأذى كيف كان، إذا لم يكن فيه ضرر على الابن، ووجوبُ طاعتهما في ترك النوافل وتركِ تعجيل الفروض الموسَّعة، وتركِ فروض الكفاية إذا كان من يقوم بها، وما عدا ذلك لا تَجبُ طاعتهم فيه وإن نُدِب إلى طاعتهم وبِرّهم مطلقا. (٣٤٧)


(٣٤٧) هذه الفقرة عبارة عن فصل عند القرافي في هذه الخلاصة، ومن تمامه قوله: وكذا الأجانب يُندَب برهم مطلقا، والمراد بهم من لا تجمع الانسان بهم صلة رحم ولا علاقة قرابة، غير أن الندب في الأبويْن أقوى في غير القرَبِ والنوافل، ولا نَدبَ في طاعة الأجانب في ترك النوافل، بل الكراهةُ من غير تحريم.
وأمّا ما يجب لذوى الأرحام من غير الأبوين فلم أظفر فيه بتفصيل، كما وجدتُ تلك المسائل في الأبوين، بل أصل الوجوب من حيث الجملة. فهذا هو الذي قدرتُ عليه في هذا الفرق. وقد رأيت جمعا عظيما على طول الأيام يَعسُرُ عليهم تحرير ذلك.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء في هذه المسألة الثامنة، عند القرافي، وعقب على ذلك بقوله: ما قاله في ذلك كله من الأجوبة وغيرها صحيح، غيرَ قوله: "وعلى هذه الطريقة يتضح لك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو اطلع على الغيب لذهبت عنه جهالات كثيرة، فإن هذا اللفظ مستنكَر مستقْبَح يجب تجنب مثله، ويمنتع إطلاقه في جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي جانب سائر الرسل والأنبياء صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
قلت: وملاحظة الشيخ ابن الشاط، وتعقيبه على تلك العبارة بيدو تعقيباً صائباً في محله. ولعل تلك العبارة صدرت من العلامة القرافي عن سهو وعدم انتباه وتأمل، فكانتْ سبق لسان وقَلَمٍ، وعثرَةَ كلا، من عالم بارز متمكن، ذى معرفة واسعة ودراية كبيرة بعلوم الشريعة وأحكامها وآدابها المرعية، وكلا يقتضيه مقام النبوة من تادب واجلال واحترام، فيلتمس له العذر المقبول والوجه السليم لها كما يلتمس ذلك لغير من بعض اهل العلم والتصوف الذين تصدر عنهم بعض العبارات وتقع فهم بعض الشطحات، فلا يكاد يتضح المراد منها،
خاصة وأن صدورَ مثل ذلك أمر نادرٌ وقليل الوقوع جدا في اهل العلم والفضل والصلاح والتقوى، لأنهم أعرف الناس بالله، وأكثرهم خشية لله، ولأنهم أعرف بمقام رسول الله، =

<<  <  ج: ص:  >  >>