للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: ويبعدُ هذا من حيث الإطلاق الوارد فيه، وهذا التقييد خلاف الأَصْل، وقال ناسٌ: إنهم كانوا يذكرون في النياحة مفاخر الميت من حيث جُرأتُه ومَهابته، وهى فسوق في الشريعة كالقتل والغصب.

قال شهاب الدين -رحمه الله-:

وهذه الأجوبة اجتمعت في أنْ ردت الحديثَ إلى مقتضى القاعدة، ثم قال: والفرق في التحقيق، إن أبقينا اللفظ على ظاهره، ما وقع لبعض العلماء، وذكر حكايته عن امرأة مات لها ولدٌ فبكته وأطالت البكاء عليه، ثم سافرت من بلدها، فجآءت المقبرة التى بالبلد الذي كانت فيه، وبكت فنامَتْ، ورأت الموتى قد قاموا إليها، وقالوا لها: أين ولدُكِ يَا هذه، ليس هو عندنا، قد آذيتنا، فخبطوها، فقامت وهي متألمة.

قال: فدلَّت هذه الحكاية على أن الأرواح تتألم من المؤلمات، وتفرح باللذات في البرزخ كما كانت في الدنيا، وهو ظاهر، وبذلك (١٩٥) تعَذَّبُ الكفار في قبورها، فالأوضاعُ البشرية في الأرواح لم تتغير، وإنما كانت في مَسْكن (١٩٦) فارقته فقط، وبقيت على حالها في أوضاعها. ولما كان العويل والبكاء في الحياة تتأذَّى به الأرواح وتنقبِضُ كانت بعد الموت كذلكَ تَتأذَّى به, كان عليها أو على غيرها، وهو عليها أشد نكايةً، لأنها هى المصابة حينئذ. وقد ورد أن الموتى يفرحون بالزيارات، ويتألمون لانقطاعها، ويكون الفرق بين القاعدتين على هذا أن الإنسان لا يعذب بفعل غيره (١٩٧)، أي عذاب الآخرة الذي هو عذاب الذنوب، والبكاء ليس البكاء الذي يكون به هو عذاب الآخر، بل المراد الألم الجبِلِّي، (١٩٨) الذي إذا


(١٩٥) عبارة القرافي: وكذلك، ولعلها أظهر وأبين بالتشبيه.
(١٩٦) في نسخة ح: سَكَن، والذي عند القرافي: مسكن، وهما بمعنى واحد.
(١٩٧) أي الفرق السابق بين قاعدة غير المكلف لا يعذب بفعل المكلف، وبين قاعدة البكاء على الميت يعذب به الميتُ.
(١٩٨) عبارة القرافي: "والبكاء عذاب ليس عذاب الآخرة الذي هو عذاب الذنوب، المتوعَّدُ به من قبل صاحب الشرع، بل معناه الألم الجبلِّى الذي إذا وقع في الوجود قد يكون رحمة من الله الخ ... وهي عبارة تبدو أظهر وأوضح.

<<  <  ج: ص:  >  >>