للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الثانية: هل يجوز الخلف في الوعيد أو الوعد (٧٧)؟ والوعد والوعيد خبران، ولا يصح الخلف على الله في واحد منهما، قال بعض العلماء بالتفريق. والصحيح أنه لا يجوز فيهما معا، وهو مما يلزم منه ألَّا يبقى وثوق بشيء من وعيده، وذلك مضاد للحكمة التي الرجوع إليها أولى من ملاحظة باب الكرم، والله أعلم (٧٨).

قلت: ذكر شهاب الدين أنه إن أريد بالوعد والوعيد صورة اللفظ وما دل عليه بوضعه اللغوي من العموم فهما سواء في جواز دخول التخصيص،


(٧٧) من المعروف المسلم به أن كلمة وعد تستعمل في الخير، وكلمة الوعيد تستعمل في الشر والتهديد، ومنه قول القائل، يمدح نفسه بحسن الخلق، والوفاء بالوعد في الخير، وبخُلْفِ الوعيد منه في الشر، وذلك شأن الكرام ذوي النفوس المؤمنة الكريمة والهمم العالية الطيبة.
وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لَمُخْلِفُ إيعادي ومنجز موعدي
والكلمتان وردتا في القرآن الكريم، ومِنْ ذلك قول الله تعالى: "وعْدَ اللهِ لا يخلف الله وعده". وقوله سبحانه: "فذكر بالقرآن من يخاف وعيد" (أي وعيدي).
(٧٨) قال شهاب الدين القرافي في أول هذه المسألة الثانية: وقع لابن نباتة في خطبة:
الحمد لله الذي إذا وعد وفى، وإذا أوعد تجاوز وعفا، وحسَّنَ ذلك عنده ما جرت به العوائد به من التمدح بالوفاء في الوعد، والعفو في الوعيد، وأتى بالبيت السابق الذكور. قال: وقد أنكر العلماء على ابن نباتة ذلك.
ووجه الإنكار وتقريره أن كلامه هذا يشعر بثبوت الفرق بن وعد الله ووعيده، والفرق بينهما محال عقلا إلخ ...
وعلق ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي في المسألة، فقال: جزم الشهاب بخطإ ابن نباتة، ويمكن أن يخرج لكلامه وجه، وهو أن وعد الله لا يخصصه إلا الردة لا غير، ووعيده يخصصه الإِيمان والتوبة، والشفاعة، والمغفرة، ولا مقابل لها في جهة الوعد، فلما كان الوعد، مخصصاته أقل من مخصصات الوعيد صح أنْ يفرق بينهما، بناء على ذلك، وما ذكره من إيهام العفو عمن أريد بالوعيد ليس من الإيهام الممنوع، والله أعلم.
والمعنى أن وعد الله لعبده المؤمن بالثواب والأجر على العمل الصالح، لا يحرمه منه ولا يحُولُ دون تحققه فيه إلا ردة الإنسان عن دينه، كفْرُه به، لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} كما أن وعيد الله لعبده الكافر وتهديده له بالعقاب والعذاب الأليم لا ينجيه منه إلا إيمان الإنسان بربه، ودخوله في عاده المسلمين الصالحين.

<<  <  ج: ص:  >  >>