للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أو استدلال، حمل عليها مثلها أو أعلى، وإن كان أدْنى لم يجعَلْهُ مُسقِطا، وهذا كالتأذِي بالقمل في الحج، فهو مبيحٌ للحلْقِ بحديث كعْب بن عُجْرة، (٦٢) والسفرُ مبيح للفطر بالنصِ. وظاهرُ ما ذكرنا أنه لم يُعتَبر في قولنا: مشقة، مدلوُل مطلَقِ هذا الاسْم، بل نُفرق كما تقدم تقريره.

وليست المعامَلات كذلك، إذا جاء فيها مطلَقُ الألفاظ يحمل على أدنى ما يكون، كمن شرَط الكتابة في العبْد لَا يلزم منه الفارِهُ فيها (٦٣) وما ذلك إلا لإظهار فضل الأمور العبادية على الأمور العادية. وأيضا فإن القصد في الأمور العادية رفع النزاع وما في بابه، والاكتفاء بذلك يُحصل ذلك، وغيرُه يُقَوِّيَهِ ويُثِيرُه. (٦٤)


(٦٢) نصُّه في الصحيحين وغيرهما: عن كعبْ بن عُجْرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَر به زمنَ الحديبية وهو يُوقِدُ تحت قِدْر له، والقملُ يتناثَرَ على وجهه، فقال له: آذاك هَوَامُّ رأسِك؟ قال: نعَم، ففال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إحْلِق رأسك ثم اذْبَحْ شاةً تُسُكاً، أوْ صُمْ ثلاثة أيام أوْ أطْعِم ثلاثة آصُعِ من تمر على سِتَّةِ مساكينَ، وفي رواية قال (أي كعب بن عُجْرة): فِيَّ خاصةً نزلت هذه الآيةُ: "فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسُكٍ"، وهي لكم عامَّةً. اهـ.
ومن القواعد المعلومة المقررة في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(٦٣) الفارِهُ: اسم فاعل من فَرُه على وزن كَرُم، إذا مَهَرَ وَحَذق في الشيء، وعبارة القرافي هنا:
يكفي في هذا الشرط مسمى الكتابة ولا يحتاج إلى المهارة فيها في تحقيق هذا الشرط. اهـ.
ثم قال ابن الشاط عن النوع الثالث الذي هو مشقة بين هذين النوعين: المشقةِ العليا، والمشقة الدنيا: هذا كلام ليس بالمستقيم ... ، والصوابُ أن التقسيم ثلاثة أقْسام أو ثلاثة أنواع: متفق على اعتباره في الإسقاط أو التخفيف، ومتَّفقْ على عدم اعتباره، ومختلَف فيه.
(٦٤) عبارة شهاب الدين القرافي هنا أظهر وأوسعُ حيث قال: سؤال آخر، ما لَا ضابط له ولا تحديد وقع في الشرع على قسمين: قسم اقتُصر فيه على أقل ما تَصْدُقُ عليه تلك الحقيقة، والقسم الآخَرُ ما وقعَ مسْقطا للعبادات لم يكتف الشرع بإسقاطها بمسمَّى تلك المشاق، بل لكل عبادَةِ، مَرْتَبَة معَيَّنة من مشاقها المؤثرة في إسقاطها، فما الفرق بين العبادات والمعاملات؟
فالجواب أن العبادات مشتملة على مصالح العبادة ومواهبِ ذى الجلال وسعادة الأبد، فلا يليقُ تفويتها بمسمى المشقة مع يَسَارة (سهولة) احتمالها، ولذلك كان ترْكُ الترخص في كثير من العبادات أوْلى، ولأن تعاطِي العبادة مع المشقة أبْلَغُ في إظهار الطواعية، وأبْلَغُ في التقرب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: أفْضل العباداتِ أحْمزُها (أي أشقُّها)، وقال: أجْرُكَ على قَدر نصَبِك (أي تعبك).

<<  <  ج: ص:  >  >>