للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فجعل للمعْصية رُتَباً: كُفْراً، وفُسوقا وهو الكبيرة، وعصيانا وهو الصغيرة. ولو كان المعنى واحداً لكان اللفظ في الآية متكررا، وهو خلاف الأصل.

إذا تقرر هذا فنقول: الصغيرة والكبيرة في المعاصي ليس من جهة من عصَى، بل من جهة المفْسَدة الكائنة في ذلك الفعل. فالكبيرة ما عظُمَتْ مفسدتها، والصَّغيرة ما قلّتْ مَفْسدَتها، ورُتَبُ المفاسد مختلفة، وأدنى رُتبها يترتب عليها الكراهية، ثم تترقى حتى تكونَ أعظم رَتب الكراهَة دون الأدْنى من رتب المحرَّمات، ثم تترقى حتى تكون أعلى رتَب الكبائر، يليها الكفر.

إذا تقرر هذا فالكبيرة تُرَدُّ بها الشهادةُ، وهي ما ثَبت أنها كبيرة بالكتاب أو السُّنة أو بالإِجماع، أو كان قد رُبِط بها حدّ من الحدود، كقطع السرقَة وجَلْد الشرُّب ونحوِهما، أو ما كان فيه وعيد صريح من الكتاب أوْ السنة، فإذا كان (٥٣) هكذا نَنْظر ما ليس فيه هذا، فإن تساوى أدناه (مفسدةً) ورجح عليه في المفْسدة ألحقناه به ورددْنا به الشهادة، وما وجدناه قاصراً عن أدنى الكبائر جعلناه صغيرة لا تَقْدَح. (٥٤) في العدالة، ولا تُوجب فسوقا إلا أن يُصِرّ عليها فتكون كبيرة.

وهناَ أربعُ مسائل (٥٥):


(٥٣) هكذا في ع. وفي ت: فما كان. وفي ح: نُظِرَ ما ليس فيه هذا.
(٥٤) كذا في ع. وفي ح، وت: لا يقدح، ومرجع الضمير في كلا العبارتين واضح.
(٥٥) علق ابن الشاط على كلام القرافي هنا فقال: ما قاله في أول الفرق إلى هذه المسائل، ونقله فيه صحيح، إلا ما قاله في ضبط الكبائر والصغائر باننظر إلى مقادير المفاسد فإنه أصل لا يصح، لأنه بناء على قواعد المعتزلة، وعلى تقدير ألا يكون بنى على ذلك بل على أن الشرع فهمنا منه مراعاة المصالح تفضُّلاً، فلا يصح أيضا الفرق بالنظر إلى مقادير المفاسد، لجَهْلنا بذلك وعدم وصولنا إلى العلم بحقيقته. وإنما الضابط لما تُرَدُّ له الشهادة مادل على الجرأة على مخالفته الشارع في أوامره ونواهيه، أو احتمل الجرأة. فمن دلّتْ قرائن حاله على الجرأة رُدَّتْ شهادتُه كمرتكب الكبيرة، المعلوم من دلائل الشرع أنها كبيرة، أو المصرُّ على الصغيرة إصرارا يؤذن بالجرأة.
ومن احتمل حالُهُ أنه إن فعل ما فعلَ من ذلك - جُرْأة أو فلتة - توقف عن قبول شهادته، ومن دَلتْ دلائل حاله أنه فعل ما فعله من ذلك - أعني ما ليس بكبيرة معلومة الكِبَر من الشرع - فلتةً غير متصف بالجرأة قُبلتْ شهادته، والله تعالى أعلم، لأن السبب في رد الشهادة ليس إلا التهمة بالاجتراء على ما ارتَكبه من المخالفة، فإذا عَري من الاتصاف بالجرأة واحتمال الاتصاف بها بظاهر حاله سقطت التهمة، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>