للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الأولى.

ما هو الإِصرار الذي يُصَيُرُ الصغيرةَ كبيرةً؟ فقال بعض الناس: هو أن يتكرر الذنبُ منه، كأنَ يَعزم على العَود أم لا؟ وقال بعضهم: إنْ تَكَررَ من غير عزم لم يكن إصرإراً، وإنما يكون إصرارا إذا فعَل الذنب وهو عازم على معاودته، فيقال: فُلَان مُصِرٌّ على العدواة، أي مصمم عليها بقلبه، وعلى مصاحبتها ومداومتها، وهذا هو المفهوم من عُرف الاستعمال، وهو الأرجَحُ. (٥٦)

المسألة الثانية: ما ضابط التكرار في الإصرإر الذي ما يُصَيِّر الصغيرةَ كبيرةً؟

قال بعض العلماء: يُنظَر إلى ما يحصل من ملابسة أدنى الكبائر من عدم الؤثوق بملابستها في أداء الشهادة، والوقوفِ عند حدود الله تعالى، ثم يُنظَرُ لذلك التكرار في الصغيرة، فإن حصل في النفس من عدم الوثوق به ما حصل من أدنى الكبائر كان هذا الِإصرارُ كبيَرةَ تُخِل بالعدالة، (٥٧) وهذا يؤكد أنه لابد فيه من العزم. (٥٨).


(٥٦) كلام القرافي هنا يزيد هذه العبارة بيانا ووضوحا حيث قال: "ولا يُفهَم في عرف الاستعمال من الإصرار إلا العزمُ والتصميمُ على الشيء، والأصل عدم النقل والتغيير، فوجب أن يكون ذلك معناه لغة وشرعا، هذا هو الذي ترجح عندي".
وقد عقب العلامة ابن الشاط على ما جاء عند الإِمام القرافي في هذه المسألة الأولى فقال: "الإصرار- لغةً- المقام على الشيء، والمعاودة له. سواءٌ أكان ذلك فعلا أو غيره، لا ما قاله المؤلف من انه العزم والتصميم على الشيء، وعلى ذلك، فالإصرار المَصَيِّرُ للصغيرة كبيرةً مانعةً من قبول الشهادة إنما هو المعاودة لها معاودةً تُشعِر بالجرأة على المخالفة، لا المعاودةُ المقترِنة بالعزم عليها، لأن العزم مما لا يتوصَّل إليه، لأنه أمرٌ باطن.
فإن قيل: الجرأة أمرٌ باطن، قلت: لم أشترط الجرأة بنفسها، وإنما اشترطت الإشعار بها، وهو ما يُدْركه من يتأمل أحوال الْمُواقع للمخالفة، والله أعلم.
(٥٧) قال ابن الشاط: ما قاله هذا العالم هو الذي أشرت إليه من الإشعار بالجرأة، وهذا كلام صحيح لا ريب فيه.
(٥٨) عقب ابن الشاط على قول القرافي هنا: "وهذا يؤكد أن الإِصرار لابد فيه من العزم، فإن الفلتات من غير أن تستمر لا تكاد تخل بالوثوق"، قال: إن اراد انه لابد من معرفتنا بعزمه فذلك غير صحيح، وكذلك إن أراد أن الحالة الشعرة بالجرأة، وكذلك إن اراد أن الحالة المشعرة بالجرأة لا تخلو عن الإِشعار بالعزم، لأنه ربَّما عاود المخالفة من غير عزم للمعاودة، وتكون حاله هذه مشعرة بجرأته على المخالفة، فالعزم لا حاجة إلى اشتراطه بوجه، والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>