للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العشرون: الموت في الشباب أغلب، ومعَ ذلك شُرع التعمير في الغائبين إلى سبعين سنة، إلغاءً لحكم الغالب وإثباتا لحكم النادر، لطفا بالعباد، ونظائر ما ذكرناه في الشرع كثيرة. فعَلى هذا ينْبغي لمن قَصد إثبات حُكْم الغالب دون النادر أن ينظر، هل ذلك الغالب مما ألغاه الشرع أو لا؟ ، وحينئذ يعتمد عليه، وأمّا مطلق الغالب كيف كان في جميع صُوَرِهِ، فخِلافُ الإِجماع.

"تنبيه" (١٥٢)

ليس من باب تقديمِ النادر على الغالب حمْلُ اللفظ على حقيقته دون مجازه، وعلى العموم دون الخصوص، فإنه يُمْكِن أن يقال: إنه منه، لغلبة المجاز على كلام العرب، حتى قال ابنُ جِنِّى: إن كلام العرب كلُّه مجاز، وغَلَبَةُ التخصيص على العمومات, حتى رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما مِن عَامٍّ إلا وقد خُصَّ، إلا قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، فنقول: إنه وإن كَانَ كما قلتم، فليس من هذا الباب. وسببُه أن شرط الفَرْدِ المترددِ بين النادر والغالب فيحْمَلُ على الغالب، أن يكون من جنس الغالب، وإلّا فلا يُحْمَل على الغالب.

بيانه بالمثال، الشَّقة (١٥٣) إذا جآت من القَصَّار، جاز أن تكون طاهرة، وهو الغالب، أو نجسة، وهو نادر، أن يصيبها بول فارِ أو حيوانٍ أو ما أشْبَهَ ذلك، فإنه يحكم بطهارتها، بناءَ على الغالب، لأنّا حكمنا بطهارة الثياب المقصورة، لأنها خرجت من القِصارة، (١٥٤) وهذا الثوب المتردد بين النادر والغالب خرَج من القِصارة، فكان من جنس الغالب يُلحق به. أمّاَ لو كنا لا نقضي بطهارة الثياب


(١٥٢) هذا التبيه ومحتواه من كلام القرافي هنا في هذا الفرق.
(١٥٣) الشِّقة بكسر الشين ما شُقَّ من ثوب ونحوه مستطيلا. والقطعة المشقوقة، ونصف الشيء. والشُّقة بضمِ الشين تطلق على المشقة، وعلى البُعْدِ، وعلى الناحية يقصدها المسافر. ومنه قوله تعالى خِطاباً لنبيه الكريم في شأن بعض المتخلفين عن النفور إلى الجهاد: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. سورة التوبة، الآية ٤٢.
(١٥٤) القِصارة بالكسر القاف حِرْفةُ القصار ومهنتُهُ، وهو منظِف الثياب ومُبَيّضُها بالغسل والتبخير.

<<  <  ج: ص:  >  >>