فجلده مائةً أخرى، ثم جلده بعد ذلك مائة أخرى، ولم يخالفه أحدٌ، فكان ذلك إجماعا، وأيضاً، فالأصل مساواة العقوبات للجنايات.
إحتجوا بما في الصحِيحَيْن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا تجلِدوا فوق عشْر جلدات في غَيْر حدٍّ من حدود الله".
أجاب أصحابنا في هذا بأن قالوا: لا يصح أن يكون دليلا على مذهبهم، فإنهم يروْن بالزيادة على العَشْر.
وأيضا فلأنه محمول على طباع السلف، ثم حدثت أشياء، فأحدث عمر لهم ما يليق بهم، لا أنه نسْخ، بل تَغَيَّرَ السبب بتغير حكمه، وهذا هو معني قول عمر بن عبد العزيز:"تُحْدَثُ للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور". ولا نسخَ وَرَدَ، إذ لا يصحُّ.
الثاني من الفروق أن الحدود واجبة الِإقامة على الأئمة، واختلفوا في التعازير. فالشافعي يقول: لا تجب عليه، ومالك يقول: لا تَجِبُ عليه إلا أن يكون حقا لله فَتَجبُ إقامتُه كالحدود، ومثلُ هذا قول أبي حنيفة.
إحتج الشافعي بقضية الزبير مع الرجل الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن كَانَ ابنَ عمتك"، (١٨) فإنه تركَه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأجابَ أصحابُنا بأنه ما تركه إلا لأنه كان حقاّ له، ولو كان حقاً لله لَأقَامَهُ.
(١٨) عن عروة رضي الله عنه قال: خاصمَ الزبير رجلاً من الانصار، (أي في السقي) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا زبَيرُ، إسْقِ ثم أِرسل الماءَ، (أي أطلقه إلى جارك)، فقال الانصاري: أن كان ابنَ عمتك، أو إنه أبن عمتك" أي حكمت له لِأنه ابن عمتك، فقال عليه السلام: إسْق يا زبير حتى يبلغ المَاء الجذْر (أي حتى تمتلئ حُفَرُ الغرس، ويصِل الماء إلى جذر النخلِ)، وفي رواية: فتغيّرَ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الزبير: "فأحْسِبُ هذه الآية نزلتْ في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: ٦٥] =