للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في الموضعين، (٣٢) فلِم كان الفرق؟ والقياسُ الجَليُّ، يوجب أن العِرْض إذا عاد مثلوما بمعاودة الجناية، أن يصير معصوما بمعاودة العدالة.

وأيضا ففيه إشكال من حيث إن أذية المومن لا تحِل ولا تُتْرَكُ سُدىً، (٣٣) فلَمَّا لم يُترك عِرْض المحْصَن الذي لم يتقدم له زني، لصفة العدالة التي انطوى عليها فكذلك من كان على تلك الصفة في العدالة وقد تاب عن زنىً سَبَقه،

فقال شهاب الدين: البحث ها هنا يظهر بقاعدتين:

الأولى أن الله تعالى إذا نصَبَ سبباً لحكمه عِلَة للحكم، هل يجوز ترتيب الحكم على تلك الحكمة حيث وجِدَتْ، لأنها الأصل في اعتبار ذلك السبب، أو لا يجوز، لأن الله تعالى لم يَنْصِبْها سببا للحكم لعدم المناسبة؟ ألا تَرى أن خوف الزني سبَبُ وجوب الزواج، والزواج سببُ وجوبِ النفقة، ولا يناسِبُ أن يكون خوف الزني سبَبَ وجوب النفقة، ونظائره كثيرة، وَهذا هو الصحيح عند علمائنا. ولهذا يُقْطَع السارق لأجل أخذه للمال، ولا يُقْطعُ كلَّ من أخذ المال لغيره، ونَصَبَ الزني سببا للرجْم، لحكمةِ حِفظ الأنساب، لئلا تلتبس. فمن سعى في التباس الأنساب بغير الزني بأن يجمع الصبيان ويُغَيِّبهم صغارا، وياتي بهم كباراً فلا يعرفهم آباؤهم، فلا يجوز رجمُهُ لذلك، ولهذا البحث وقع الخلاف في اللبن


(٣٢) عبارة القرافي أظهر، وهي: "وفي القاعدتين قد ورد الضد بعد الضد، المنفِي لحكمه ظاهرا، قال أصحابنا: إذا قذفه بعد أن صار عَدْلًا لم يُحَدَّ، نقلَه صاحب الجواهر (ابني شاس) وصاحب النوادر (أي كتاب النوادر في الفقه) لابن أبي زيد القيرواني رحمه الله، وجماعة من الأصحاب".
(٣٣) سدىً، أي همَلا، ودون تعزير وتأديب على تلك الإذاية. وقد ورت هذه الكلمة في قول الله تعالى، تذكيرا وتنبيها للإنسان: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}، (أي أيظُن أنه خُلِقَ عبثًا، ومُهملًا في هذه الحياة دون تكليف بالتكاليف الشرعية، ودون أن يبعَثَ ويحاسبَ يوم القيامة على أعماله في الدنيا)! كلا، إنه سبحانه أوجد الانسان وخلَقَهُ وكرمه ليحمل أمانة ويبلّغ رسالة، وهي رسالة التكاليف الشرعية التي يجب القيام بها، ورسالة الأمانة التي عجزت السماوات والأرض عن حملها، وحَمَلها الانسان.

<<  <  ج: ص:  >  >>