للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنها أن يسأل ربَّه أن يجعل بينه وبينهُ نَسَباً يكون له به الشرف على الخلائق. وقد قام البرهان القاطع على استحالةِ ذلك عليه، وطالبُ هذا قد طلب الاستيلاد، وَهو كفر. (٢٢)

قلت: إلزامه الكفر للصوفية من حيث قولهم: "أعطِىَ فلانٌ كلمةَ كن"، غيرُ صحيح، فإن هذا الكلام يصدق على من خَرَق الله له العادة مرَّةً أو مرتين، بأن طلب من ربه شيئا، أوْهَمَّ بشيء يُتصَوَّر (٢٣) مطلوبه على وفْق مرادِه بغير تدريج بل دَفعةً, وهذا القدر صحيحٌ وجوده، ولا يلزم منه الشِّركة لله في المُلْك، ولا بأكثر من ذلك.

قال شهاب الدين رحمه الله: وقد قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: إِن بناء الكنائس كفر إذا بناها مسلم، ويكون رِدّةً في حقه، لاستلزامِه إرادة الكفر (٢٣) , ولذلك أفتى بأنَّ المسلم إذا قتَل نبياً يعتقد صحة رسالته كان كافراً، لِإرادته إماتة شريعته، وإرادةُ إماتة الشريعة كفْرٌ (٢٤)


قلت: ولعلَ مثل هذا التوجيه والتصويب بقصد إيجاد مَخْرَج مقْبول وتأويل سليم لا يُنسَب من هذه الكلمة وغيْرها للشيخ المتصوف الحسين بن منصور الحلاج، وكذا لِبَعْض الصوفية في كلامهم من شطحات أحيانا، يبدو تأويلا وتوجيها مقبولا ومعقولا إلى حد ما، ويُعتبر مخرجا لذلك بشيء من التجاوز والتسامح، ويبقى معه التفويض بعد ذلك إلى الله في شأنهم وأمرهم، فقد أفْضَوْا إلى ما أفضوا إليه من حالهم ومآلهم الغائب عنا عند الله تعالى، وهو سبحانه، المطلع على القلوب والأحوال، العليم بالنيات والسَّرائر النفسية، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ويَعْلم المقاصِدَ، والسَّرائر النفسية، يعلم ما توسوس به نفس الإنسان وهو أقرب إليه من حبل الوريد, وذلك حتى يسلم المرء من الحكم على الناس بما يظنه صوابا، ويكون عند الله وفي علمه سبحانه خطأ يتحمل الإنسان وزره وإثمه يوم لقاء الله والفصل بين العباد. تمشيا مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمِرْتُ أن أحكُمَ بالظاهِرِ، واللهُ يتولَّى السَّرائر"، والله أعلم بالحق والصواب، والهادي إليه من أطاعه وأناب.
(٢٢) علق الشيخ ابن الشاط على هذا المثال بقوله: قلت: الكلام في هذا كالكلام فيما قبله.
(٢٣) قال ابن الشاط: معنى قول أبي الحسن الأشعري (أن بناء الكنائس كُفْر) أي في الحكم الدنيوي، وأما الأخروي فحَسَبَ النية، والله تعالى أعلم.
(٢٤) قال ابن الشاط: ما قاله الشيخ أبو الحسن في هذه المسألة ظاهر.

<<  <  ج: ص:  >  >>