للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم الزهد في المحرَّمات واجب، وفي الواجبات حرامٌ، وفي المندوبات مكروةٌ، وفي المباحات مندوب، لأن الميل إلَيْها يُفْضِي لارتكاب المحرمات أو المكروهات.

قلت: لا يقال الزهدُ بِحَسَب العُرف على ترْك الواجبات، ولا على ترْك المندوبات، ولا على ترْك المكروهات، ولا على ترْك الحرام، وإنما يُستعمَلُ بحسَب المباح إذا تُرِك، وهذا الزهدُ الذي يُعتبر فيه الترْكُ هُوَ الزهد الظاهر، وللزهد الظاهر زهذ باطن، وهو -كما قلنا- عَدَمُ احتِفال القلب، وبه يقعُ الفرق بين الزهد والورَع، وباعتبار الظاهر يقع اللبْسُ بينهما. (١٧٠)

والورَعُ ترك ما لاباس به مخافة ما به بأسٌ، (١٧١)، وهو مندوب إليه. ومنه (أيْ من الورَع) الخروجُ عن خلاف العلماء بحسب الإمكان، كأن يختلف العلماء في شيء هل هو حرام أو مُباح؟ فالورع التركُ، أو هو مباح أو واجب فالورع الفعلُ. وإن اختلفوا هل هو مشروع أو غيرُ مشروع فالورَع الفعل، لأن القائل بالشرعية مثبِتٌ لأمْرٍ لم يطاح عليه النافي، والمثْبِتُ مقدَّمٌ على النافي، كتعارض البينات، وذلك كاختلاف العلماء في شرعية الفاتحة في صلاة الجنازة، وكالبسملة، قال مالك: هي في الصلاة مكروهة، وقال الشافعي: واجبة، فالورعَ


(١٧٠) هو موضوع الفرق السادس والخمسين والمائتين بين قاعدة الزهد، وقاعدة الورَع، جـ ٤. ص ٢١٠، وهو على عكس ما قبله - من أطول الفروق عند القرافي، وعلق ابن الشاط على بعض فقراته كما سيتضح بعدُ في هذه التعاليق.
(١٧١) قال القرافي: وأصله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحلالُ بَيّنٌ، والحرام بَيّنٌ، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهُنَّ كثير من الناس، فمن اتقى الشهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" وتمام الحديث: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعى يَرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. (والحمى بكسر الحاء وفتح الميم ما يحميه الغير من الأرض ومرعاها، فلا ينبغي الاقترابُ منه تجنبا للوقوع فيه)، ألَا وإن لكلِ مَلِكٍ حِمىً، ألا وإن حِمَى الله مَحارمه، (اي المحرمات التي حرمها على العباد ونهاهم عن الوقوع فيها والاقتراب منها)، ألا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلحت صلَح الجسد كله، وإذا فسدَتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"، رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه. فالقلْبُ إذا صَلَحَ عقيدةً وخشوعا وخشية من الله صلحتْ أعمال الجوارح بفعلِ الطاعات المامور بها، وبالإعراض عن المنهيات المحرّمات.
قال ابن الشاط هنا: ما قاله القرافي في ذلك صحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>