قيل: من هم؟ فقيل: ملائكة، وهذا مذهب سيبويه فيه وفي نظائره، وقال الأَخْفَش ومن تابعه: إنَّ إظهار ضمير الجمع والتثنية في الفعل إذا تقدَّم جائز وهي لغة بني الحارث، وقالوا: هو نحو أكلوني البراغيث، وكقوله تعالى:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا}[الأنبياء: ٣]، وقال القُرْطُبي: هذه لغة فاشية، ولها وجه من القياس صحيح، وعليها حمل الأَخْفَش قوله تعالى:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا}[الأنبياء: ٣].
وقيل: هذا الطريق المذكور هنا اختصره الراوي، وأصله:((الملائكة يتعاقبون، ملائكة باللَّيل وملائكة بالنهار)) وبهذا اللَّفظ رواه البخاري في بدء الخلق من طريق شُعَيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد، وأخرجه النَّسائي أيضًا من طريق موسى بن عُقْبَة عن أبي الزناد بلفظ:((إن الملائكة يتعاقبون فيكم))، فاختلف فيه على أبي الزناد، فالظاهر: إنَّه كان تارةً يذكره هكذا وتارةً هكذا، وهذا يقوِّي قول هذا القائل، ويؤيِّد ذلك: أنَّ غير الأعرج من أصحاب أبي هريرة قد رووه تامًا، فأخرجه أحمد ومسلم من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة مثل رواية موسى بن عُقْبَة لكن بحذف (إنَّ) من أوَّله، وأخرجه ابن خُزَيمَة والسرَّاج من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ:((إنَّ للهِ ملائكةً يتعاقبُونَ)) وهذه الطريقة أخرجها البزَّار أيضًا، وأخرجه أبو نُعَيم في «الحلية» بإسناد صحيح من طريق أبي يُونُس عن أبي هريرة بلفظ: ((إنَّ الملائكةَ فيكُم يعتقبُونَ)).
وقال شيخنا: وتوارد جماعة من الشرَّاح على أنَّ حديث الباب من قبيل قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}[الأنبياء: ٣]، ووافقهم ابن مالك، وناقشه أبو حيان زاعمًا أنَّ هذه الطريق اختصرها الراوي، واحتجَّ لذلك بما رواه البزَّار من وجه آخر عن أبي هريرة - أي كما تقدَّم - وقد شُوحح في العزو إلى «مسند البزار» مع أنَّ الحديث بهذا اللَّفظ في «الصحيحين» فالعزو إليهما أولى، وذلك أنَّ هذا الحديث رواه عن أبي الزناد مالك في «الموطَّأ» ولم يختلف عليه باللفظ المذكور، وهو قوله:(يتعاقَبون فيكُم)، وتابعه على ذلك عبد الرحمن بن أبي الزِّناد عن أبيه أخرجه سعيد بن مَنْصور عنه، ثمَّ ذكر شيخنا الأحاديث الَّتي تقدَّمت ثمَّ قال: وإذا عرف ذلك فالعزو إلى الطريق الَّتي تتحد مع الطريق الَّتي وَقَعَ القول فيها أولى من طريق مغايرة لها، فليعزُ إلى تخريج البخاري والنَّسائي من طريق أبي زناد كما أوضحته. انتهى.
ومعنى:(يَتَعاقَبونَ) تأتي طائفة عقيب طائفة، ومنه تعقيب الجيوش، وهو أن يذهب قوم ويجيء آخرون، وقال ابن عبد البرِّ: وإنما يكون التعاقب بين طائفتين أو رجلين يأتي هذا مرَّة ويعقبه هذا، ومنه تعقيب الجيوش أن يجهز الأمير بعثًا إلى مدَّة، ثمَّ يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز غيرهم إلى مدَّة، ثمَّ يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز الأولين.
فإن قلت: ما وجه تبكير ملائكة؟ قال العَيني: ليدلَّ على أنَّ الثانية غير الأولى لقوله تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}[سبأ: ١٢].
قوله:(فِيْكُمْ) أي المصلِّين أو مطلق المؤمنين، قال العَيني: الخطاب يعود في قوله: (يَتَعَاقَبُوْنَ فِيْكُمْ) للمصلِّين، ولا يصحُّ أن يكون لمطلق المؤمنين؛ لأن هذه الفضيلة للمصلِّين، والدليل على ذلك قوله:(يجتمعونَ في صلاةِ الفجرِ وصلاةِ العصرِ). انتهى. قلت: على قول من يقول: إنَّ المراد من الملائكة هنا الحفظة، يلزم من قول العَيني أنَّ غير المصلِّين من المؤمنين لا يكون معهم حفظة. انتهى.