قال العَيني: عند أكثر العلماء هم الحفظة، فسؤاله لهم إنَّما هو سؤال عما أمرهم به من حفظهم لأعمالهم وكتبهم إياها عليهم. وقال عياض: وقيل يحتمل أن يكونوا غير الحفظة، فسؤاله لهم إنَّما هو على جهة التوبيخ لمن قال: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: ٣٠]، وإنَّه أظهر لهم ما سبق في علمه بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٣٠].
قال القُرْطُبي: وهذه حكمة اجتماعهم في هاتين الصلاتين. أو يكون سؤاله لهم استدعاء لشهادتهم له، ولذلك قالوا: (أتيناهُم وهُم يصَلُّون، وتركناهُم وهُم يصَلُّون) وهذا من خفي لطفه عز وجل وجميل ستره إذ لم يطلعهم إلَّا على حالة عبادتهم، ولم يطلعهم على حالة شهواتهم وما يشبهها. انتهى.
قال العَيني: هذا الذي قاله يعطي أنَّهم غير الحفظة؛ لأنَّ الحفظة يطَّلعون على أحوالهم كلِّها، اللَّهمَّ إلَّا أن تكون الحفظة غير الكاتبين فيتجه ما قاله، والظَّاهر أنَّهم غيرهما؛ لأنَّه قد جاء في بعض الأحاديث: ((إذا ماتَ العبدُ جلسَ كاتباهُ عندَ قبرِهِ يستغفرانِ لهُ ويصلِّيانِ عليهِ إلى يومِ القيامةِ)) يوضحه ما روى ابن المنذر بسند له عن أبي عُبَيْدَة بن عبد الله عن أبيه أنَّه كان يقول: يتداول الحارسان من ملائكة الله تعالى حارس اللَّيل وحارس النَّهار عند طلوع الفجر.
وعن الضَّحَّاك في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفَجْرِ} [الإسراء: ٧٨] قال: تشهده ملائكة اللَّيل وملائكة النَّهار، يشهدون أعمال بني آدم. وفي «تفسير ابن أبي حاتم» : تشهده الملائكة والجنُّ. انتهى.
قال شيخنا عقبه: كلام القاضي عياض: وفيه شيء؛ لأنَّه رجَّح أنَّهم الحفظة، ولا شكَّ أنَّ الذين يصعدون كانوا مقيمين عندهم مشاهدين لأعمالهم في جميع الأوقات، فالأولى أن يقال: الحكمة في كونه تعالى لا يسألهم إلَّا عن الحالة الَّتي تركوهم عليها ما ذُكر، ويحتمل أن يقال: إنَّ الله تعالى يستر عنهم ما يعملونه في هاتين الوقتين، لكنَّه بناء على أنَّهم غير الحفظة. وفيه إشارة إلى الحديث الآخر: أنَّ ((الصلاةَ إلى الصَّلاة كفارةٌ لما بينَهما)) فمن ثمَّ وَقَعَ السؤال من كلِّ طائفة عن آخر شيء فارقوهم عليه. انتهى.
وتردَّد ابن بَزِيزَة: هل هم الحفظة أو غيرهم؟ وقال القُرْطُبي: الأظهر عندي أنَّهم غيرهم، ويقوِّيه: إنَّه لم ينقل أنَّ الحفظة يفارقون العبد، ولأنَّ حفظة اللَّيل غير حفظة النَّهار، وبأنَّهم لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها في قوله: (كيف تركتم عبادي).
قوله: (وَيَجْتَمِعُوْنَ) قال الزَّين بن المنيِّر: التعاقب مغاير للاجتماع، لكن ذلك منزل على حالتين. قال شيخنا: وهو ظاهر، وقال ابن عبد البرِّ: الأظهر أنَّهم يشهَّدون معهم الصَّلاة في الجماعة، واللفظ محتمل للجماعة وغيرها، كما يحتمل أنَّ التعاقب يقع بين طائفتين دون غيرهم، وأن يقع التعاقب بينهم في النوع لا في الجنس.
قلت: وقد تقدَّم آنفًا أنَّ اجتماعهم في هاتين الصلاتين من لطف الله تعالى بعباده المؤمنين أن جعل اجتماعهم عندهم ومفارقتهم لهم في أوقات عبادتهم واجتماعهم على طاعة ربِّهم، فتكون شهادتهم لهم بما شاهدوه من الخير.
وقال ابن حبَّان في «صحيحه» : فيه بيان أنَّ ملائكة اللَّيل تنزل والنَّاس في صلاة العصر، وحينئذ تصعد ملائكة النَّهار، وهذا ضدُّ قول من زَعَمَ أنَّ ملائكة اللَّيل تنزل بعد غروب الشَّمس.