دقيق العيد من يتمسك بالظاهر ولا يتقيد بالمعنى، وهو أن الحديث وَرَد في صلاة معينة فيدل على وجوب الجماعة فيها دون غيرِها، وأشار إلى الانفصال عنه بالتمسك بدلالة العموم، لكن نوزع في كون القول لِمَا ذكر أولًا ظاهرية محضة، فإنَّ قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضيه، ولا يستلزم ذلك تركَ اتباعِ المعنى، لأن غير العشاء والفجر مظنة الشُّغل بالتكسب وغيِره، أما العصران فظاهر وأما المغرب فلأنها في الغالب وقتُ الرجوع إلى البيت والأكل، لا سيما للصائم مع ضيقِ وقتها، بخلاف العشاء والفجر فليس للمتخلف عنهما عذر غير الكسل المذموم، وفي المحافظة عليهما في الجماعة أيضًا انتظامُ الألفة بين المتجاورين في طرفي النهار وليختموا النهار بالاجتماع على الطاعة ويفتتحوه كذلك.
وقد وقع في رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد تخصيصُ التهديدِ بمن حول المسجد. انتهى.
قلت: تقع الأُلفةُ باجتماع المتجاورين في هذه الصلوات الخمس، وتقع لأهل المدينة باجتماعهم في صلاة الجمعة، وتقع لأهل القرى باجتماعهم في صلاة العيدين، وتقع لأهل الدنيا باجتماعهم في الحج. انتهى.
وسيأتي توجيهُ كون العشاء والفجر أثقلُ على المنافقين من غيرهما.
قال شيخنا: وقد أطلتُ في هذا الموضع لارتباط بعضِ الكلام ببعض، واجتمع من الأجوبة لمن لم يقل بالوجوب أوجه لا توجد مجموعةً في غير هذا الشرح. انتهى.
وفي الحديث من الفوائد أيضًا: تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، لأن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتُفِي به عن الأعلى بالعقوبة. قال العيني: يكون هذا من باب الدفع بالأخف. انتهى.
وفيه: جواز العقوبة بالمال بحسب الظاهر، واستدل به قوم من القائلين بذلك من المالكية، وَعَزَى ذلك أيضًا إلى الإمامِ مالك.
قال شيخنا: وفيه نظر لِمَا أسلفناه، ولاحتمال أن التحريق من باب ما لا يتمُّ الواجب إلا به، إذْ الظاهر أن الباعثَ على ذلك أنهم كانوا يختفون في بيوتهم فلا يُتَوصل إلى عقوبتهم إلا بتحريقها عليهم.
قال العيني: وأجاب الجمهور عنه - أي عن جواز العقوبة بالمال - بأنَّه كان ذلك في أول الإسلام ثم نُسخ. انتهى.
وفيه: جوازُ أخذ أهل الجرائم على غِرَّة، لأنه صلى الله عليه وسلم هَمَّ بذلك في الوقت الذي عُهِد منه فيه الاشتغالُ بالصلاة بالجماعة، فأراد أن يبغتهم في الوقت الذي يتحققون أنه لا تطرقهم فيه، وفي السياق إشعار بأنه تقدم منه زجرهم عن التخلف بالقول حتى استحقوا التهديد بالفعل. وترجم عليه البخاري في كتاب الأشخاص وفي كتاب الأحكام بابُ إخراج أهل المعاصي والرِّيَب من البيوت بعد المعرفة. يريدُ أنَّ من طُلِب منهم بحٍّق فاختفى إذا امتنع في بيته لَدَدًا (١) أو مطلًا أُخرِج منه بكل طريق يُتوصل إليه بها، كما أراد - صلى الله عليه وسلم - إخراجَ المتخلفين عن الصلاة بإلقاء النار عليهم في بيوتهم.
وحكى الطحاوي في «أدب القضاء الصغير» له أن بعضهم كان يرى الهجوم على الغائب، وبعضَهم لا يرى، وبعضَهم يرى
(١) ((لَدَدًا)) غير مفهومة في (الأصل).