قال شيخنا: وفيه بحثٌ، لأن الأحاديث اختلفت في تعيين الصلاة التي وقع التهديدُ بسببها هل هي الجمعة أو العشاء والفجر معًا، فإن لم تكن أحاديث مختلفة ولم يكن بعضُها أرجح من بعض وإلا وقف الاستدلال، لأنه لا يتم إلا إن تعين كونها غير الجمعة، أشار إليه ابنُ دقيق العيد، ثم قال: فليُتَأَمَّل الأحاديثُ الواردة في ذلك. انتهى.
قال شيخنا: وقد تأملتُها فرأيتُ التعيينَ ورد في حديث أبي هريرة وابنِ أم مكتوم وابنِ مسعود، أما حديثُ أبي هريرة فحديث الباب من رواية الأعرج عنه تُومِئ إلى أنها العشاء؛ لقوله في آخره:(لَشَهِدَ العِشَاءَ)، وفي رواية مسلم:((يعني العشاء)). ولهما من رواية أبي صالح أيضًا الإيماءُ إلى أنها العشاء والفجر، وعينها السراج في رواية له من هذا الوجه العشاء، حيث قال في صدر الحديث: أَخَّر العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلًا فغضب... فذكر الحديث. وفي رواية ابن حبان من هذا الوجه:((يعني الصلاتين العشاء والغداة)). وفي رواية عجلان والمقبري عند أحمد التصريحُ بتعيين العشاء.
ثم سائر الروايات عن أبي هريرة على الإبهام، وقد أورده مسلم من طريق وكيع عن جعفر بن بُرقان عن يزيد بن الأصم عنه فلم يسُق لفظه، وساقه الترمذي وغيرُه من هذا الوجه بإبهام الصلاة، وكذلك رواه السراج وغيره من طرق عن جعفر وخالفهم معمر عن جعفر فقال:((الجمعة)) أخرجه عبد الرزاق عنه، والبيهقي من طريقه وأشار إلى ضعفها لشذوذها، ويدل على وهمِه فيها روايةُ أبي داود والطبراني في «الأوسط» من طريق يزيد بن يزيد بن جابر عن يزيد بن الأصم فذكر الحديث. قال يزيد: قلت ليزيد بن الأصم: يا أبا عوف الجمعة عنى أو غيرها؟ قال: صُمَّتْ أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر جُمعةً ولا غيرها.
فظهر أن الراجح في حديث أبي هريرة أنها لا تختص بالجمعة.
وأما حديث ابنِ أمِّ مكتوم فسأذكره قريبًا وأنه موافق لأبي هريرة، وأما حديث ابن مسعود فأخرجه مسلم وفيه الجزم بالجمعة وهو حديث مستقل، لأن مخرجه مغاير لحديث أبي هريرة، ولا يقدح أحدُهما في الآخر فيُحمل على أنهما واقعتان كما أشار إليه النووي والمحب الطبري. وقد وافق ابن أم مكتوم أبا هريرة على ذكر العشاء، وذلك فيما أخرجه ابن خزيمة وأحمد والحاكم من طريق حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن شداد عن ابن أم مكتوم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: ((لقد هممت...)) الحديث.
ولابن حبان من حديث جابر قال:((أتسمع الأذان؟)) قال: نعم، قال:((فأتها ولو حبوًا)). وقد حمله العلماء على أن ابن أم مكتوم كان لا يشق عليه التصرف بالمشي وحده ككثير من العُميان، واعتمد ابن خزيمة وغيرُه حديث بن أم مكتوم هذا على فرضية الجماعة في الصلوات كلِّها ورجحوه بحديث الباب وبالأحاديث الدالة على الرخصة في التخلف عن الجماعة، قالوا: لأن الرخصة لا تكونُ إلا عن واجب.
قال شيخنا: وفيه نظر ووراء ذلك أمر آخر ألزَمَ به ابن