للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وكان أبو بكر أعلمَنا، ومراجعة الشارع بأنه هو الذي يصلي يدل على ترجيحه على جميع الصحابة وتفضيله. فإن قلتَ: في حديث أبي مسعودٍ البدري الثابت في مسلم: ((يؤم (١) القوم أقرؤهم لكتاب الله)) يعارض هذا؟ قال العيني: لا، لأنه لا يكاد يوجد إذ ذاك قارئ إلا وهو فقيه. انتهى. وأجاب بعضهم: بأن تقديم الأقرأ كان في أول الإسلام حين كان حفاظ الإسلام قليلاً، وقد قُدِّمَ عمرو بن سلمة وهو صغير على الشيوخ لذلك، وكان سالم يؤم المهاجرين والأنصار في مسجد قباء حين أقبلوا من مكة لعدم الحُفَّاظِ حينئذ، وقال الحنفيةُ: أولى الناس بالإمامة أعلمهم بالسُّنَّة، أي بالفقه والأحكام الشرعية إذا كان يُحسِن من القراءة ما تجوز به الصلاة، وهو قول الجمهور، وإليه ذهب عطاء والأوزاعي ومالك والشافعي. وعن أبي يوسف: أقرأ الناس أولى بالإمامة، يعني: أعلمهم بالقراءة وكيفية أداء حروفها ووقوفها وما يتعلق بالقراءة، وهو أحد الوجوه عند الشافعية. وفي «االمبسوط» وغيرِه: إنما قدم الأقرأ في الحديث لأنهم كانوا في ذلك الوقت يتَلَقَّوْنَه (٢) بأحكامه، حتى روي أن ابن عمر حفظ سورة البقرة في اثني عشرة سنة، فكان الأقرأ فيهم هو الأعلم بالسنة والأحكام. وعن ابن عمر أنه قال: ما كانت تنزل السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويُعلم أمرُها ونهيُها وزجرُها وحلالُها وحرامُها، والرجل اليوم يقرأ السورة ولا يعرف من أحكامها شيئاً.

فإن قلتَ: لما كان أقرؤُهم أعلمَهم فما معنى قوله عليه السلام: ((فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) وأقرؤهم هو: أعلمهم بالسنة في ذلك الوقت لا محالة على ما قالوا؟ قال العيني: المساواة في القراءة توجيهاً في العلم في ذلك الزمان ظاهراً لا قطعاً، فجاز تصور مساواة الإثنين في القراءة مع التفاوت في الأحكام، ألا ترى أن أُبَيَّ بن كعب رضي الله عنه كان أقرأ وابن مسعود كان أعلم وأفقه. وفي «االنهاية» : اشتغل بحفظ القرآن ستة: أبو بكر وعثمان وعلي وزيد و أُبَيَّ بن كعب وابن مسعود رضي الله عنهم، وعمر رضي الله عنه كان أعلم وأفقه من عثمان، ولكن كان يعسُر عليه حفظ القرآن، فجرى كلامه - عليه السلام - على الأعم الأغلب.

فإن قلتَ: الكلام في الأفضلية مع الاتفاق على الجواز على أي وجه كان، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)) بصيغته تدل على عدم جواز إمامة الثاني عند وجود الأول، لأن صيغته صيغة إخبار، وهو في اقتضاء الوجوب آكد من الأمر، وأيضاً فإنه ذَكَره بالشرط والجزاء فكان اعتبارُ الثاني إنما كان بعد وجود الأول لا قبله. قال العيني: صيغة الإخبار لبيان الشرعية لا أنه لا يجوز


(١) في (الأصل) : ((يقوم)) والصواب ((يؤم)).
(٢) في (الأصل) : ((ينقلونه)) والصواب ((يتلقونه)).

<<  <   >  >>