للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

إمامة القاعدِ المعذورِ لمثله وللقائم أيضاً، وخالف مالكٌ في المشهور عنه ومحمدُ بن الحسن فيما حكاه الطحاوي، ونقل عنه أن ذلك خاصٌّ بالنبي صلى الله عليه وسلم واحتج بحديث جابر عن الشعبي مرفوعاً: ((لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ بعدي جالساً) واعترضه الشافعي فقال: قد عَلِم مَن احتج بهذا أنْ لا حجةَ فيه لأنه مرسلٌ ومن رواية رجلٍ يرغب أهلُ العلم عن الرواية عنه. يعني: جابراً الجعفي. قلتُ: قال بعض الحفَّاظ: قال أبو حنيفة: ما لقيتُ فيمن لقيتُ أكذبَ من جابرٍ الجُعفي. انتهى. وقال ابن بَزِيزَة: لو صح لم يكن فيه حجة، لأنه يحتمل أن يكون المراد منع الصلاة بالجالس، أي يعرب قوله: ((جالساً)) مفعولاً لا حالاً. وحكى عياض عن بعض مشايخه: أن الحديث المذكور يدل على نسخ الأمرِ المتقدم لهُم بالجلوس لَمَّا صَلَّوْا خلفه قياماً. وتُعُقِّبَ بأن ذلك يحتاج - لو صَحَّ - إلى تاريخٍ وهو لا يصح، لكنه زَعم أنه يُقَوَّى بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحدٌ منهم.

قال: والنسخُ لا يثبت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لكنَّ مواظبتَهم على ترك ذلك تَشْهَدُ لصحة الحديث المذكور. وتُعُقِّبَ بأن عدم النقل لا يدل على (١) عدم الوقوع، ثم لو سُلِّم لا يلزم منه عدم الجواز لاحتمال أن يكونوا اكتفوا باستخلاف القادر على القيام للاتفاق على أن صلاة القاعد بالقائم مرجوحة بالنسبة إلى صلاة القائم بمثله، وهذا كافٍ في بيان سبب تركهم الإمامة من قعود. واحتَجَّ أيضاً بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى بهم قاعداً لأنه لا يصح التقدم بين يديه، لنهي الله عن ذلك، ولأن الأئمة شفعاء ولا يكون أحد شافعاً له، وتُعُقِّبَ بصلاته - عليه السلام - خلف عبد الرحمن بن عوف وهو ثابت بلا خلافٍ، وصح أيضاً أنه صلى خلف أبي بكر كما قدمنا. قال شيخنا: والعجب أن عُمدة مالكٍ في منع إمامة القاعد قولُ ربيعةَ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في تلك الصلاة مأموماً خلف أبي بكر. وإنكارُه أن يكون صلى الله عليه وسلم أَمَّ في مرض موته قاعداً كما حكاه عنه الشافعي في «الأم»، وكيف يَدَّعِي أصحابُه عدمَ تصويرِ أنه صلى مأموماً، وكأنَّ حديثَ إمامته المذكورَ لَمَّا كان في غاية الصحة ولم يمكنهُم (٢) ردُّه سلكوا في الانتصار (٣) وجوهاً مختلفة. وقد تَبَيَّن بصلاته خلف عبد الرحمن بن عوف أَّن المراد بمنع التقدُّمِ بين يديه في غير الإمامة، وأنَّ المراد بكون الأئمة شفعاء أي في حق من يحتاج إلى الشفاعة، ثم لو سُلِّمَ أنه لا يجوز أن يؤمَّه أحدٌ لم يدلَّ ذلك على منع إمامة القاعد، وقد أَمَّ قاعداً جماعةٌ من الصحابة بعده، منهم: أُسَيْدُ بن حُضَيْر وجابر وقيس بن قَهْد وأنس بن مالك وغيرُهم، بل ادَّعى بن حبان وغيرُه إجماعَ الصحابة على صحة إمامة القاعد كما سيأتي.

وقال أبو بكر بن العربي: لا جوابَ لأصحابنا عن حديثِ مرضِ النبي صلى الله عليه وسلم يَخلُصُ عند الشكِّ، واتباعُ السنة أولى والتخصيصُ لا يثبت بالاحتمال. قال: إلا أني سمعت بعض الأشياخ يقول: الحالُ أحدُ وجوه التخصيصِ، وحالُ النبي صلى الله عليه وسلم والتبركُ به وعدم العِوَضِ عنه يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها وليس


(١) في (الأصل) : ((بأن عدم الفعل على عدم الوقوع))، والصواب: ((بأن عدم النقل لا يدل على عدم الوقوع)) كما في فتح الباري.
(٢) في (الأصل) : ((يمكنه))، والصواب: ((يمكنهم)) كما في فتح الباري.
(٣) في (الأصل) : ((الاختصار))، والصواب: ((الانتصار)) كما في فتح الباري.

<<  <   >  >>