للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المتكلمين من الكلابية والأشاعرة والماتريدية وغيرهم، بحثوا لها عن مسمى شرعي جاء في النصوص ليسموها به فيجعلوا لها صبغة شرعية تروج من خلالها بضاعتهم الكاسدة وطريقتهم الفاسدة، فاختاروا لفظ التأويل وجعلوا له معنى حادث غير المعنى الذي جاءت به النصوص وتتابع عليه السلف الصالحون، فقالوا التأويل: هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى غير ظاهره؛ لقرينة دلت على ذلك، أو هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لقرينة دلت عليه (١).

ثم إنهم لم يلتزموا هذا التعريف الذي ذكروه ولا الدليل الذي اشترطوه، وإنما جعلوا هذه ذريعة لهم لتقرير معتقداتهم الباطلة، وترويج آرائهم الفاسدة.

فجعلوا هذه القرينة التي تجيز صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته ليست قرينة لغوية ولا دليلاً وحجة شرعية، وإنما أهواؤهم وعقولهم، فمخالفة عقولهم الضعيفة وأهوائهم الفاسدة هي الدليل والقرينة التي توجب صرف اللفظ عن ظاهره، وتحريف الكلم عن معناه.

وليس المقصود حصر ظهور هذا الأمر بظهور الكلابية والأشاعرة، بل إن هذا المسلك قديم، ولكنهم أذاعوه وأشهروه والتزموه، قد وصف الدارمي -رحمه الله- حال بعض أسلافهم بقوله: «وبلغنا أن بعض أصحاب المريسي (٢) قال له: كيف تصنع بهذه الأسانيد الجياد التي يحتجون بها علينا في رد مذاهبنا، مما لا يمكن التكذيب بها؟ .. قال: فقال المريسي: لا تردوه فتفتضحوا، ولكن غالطوهم بالتأويل فتكونوا قد رددتموها بلطف؛ إذ لم يمكنكم ردها بعنف» (٣).


(١) انظر: البرهان للجويني (١/ ٥١١)، المستصفى للغزالي (١/ ٣٨٧)، الأحكام للآمدي (٣/ ٥٩٩)، شرح مختصر الروضة (٣/ ٥٩٩)، شرح ابن أبي العز (ص:١٨٢).
(٢) هو بشر بن غياث بن أبي كريمة عبد الرحمن المريسي، العَدَوى بالولاء، أبو عبد الرحمن من روؤس الجهمية الفقه عن القاضي أبي يوسف، وقيل: كان أبوه يهوديا، ورماه غير واحد بالزندقة، رد عليه الإمام الدارمي في كتاب النقض (ت: ٢١٨ هـ). انظر: تاريخ بغداد (٧/ ٥٣١) وفيات الأعيان (١/ ٢٧٧).
(٣) نقض عثمان بن سعيد (ص ٥٥٨).

<<  <   >  >>