وأصل شبهة القوم التي بنوا عليها اعتقادهم في القرآن الكريم وكلام الله سبحانه، ومن ثمَّ اعترضوا على جميع ما يخالفها من تقريرات أهل السنة: هي اعتقادهم أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته؛ وذلك لأن هذا يستلزم -عندهم-حلول الحوادث بالله سبحانه، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
فلما خالفوا المعتزلة وأثبتوا الكلام صفة لله عز وجل وعندهم كما سبق أن الصفات لا تعلق لها بالمشيئة؛ لأنها لو كانت كذلك لكانت حوادث، قالوا بأن كلام الله: إنما هو معنى واحد قديم، ليس قائماً بالذات، وليس بحروف ولا أصوات، لأن الحروف والأصوات مقدورة مرادة تتعلق بها المشيئة.
ثم إنهم نظروا للقرآن الكريم فوجدوه يتألف من معان وحروف، وهم قد نفوا أن يكون كلام الله بحروف وأصوات؛ فقالوا -لكي لا ينقضوا أصلهم-: القرآن ليس هو كلام الله حقيقة، وإنما هو حكاية أو عبارة عن كلام الله، واعترضوا على شيخ الإسلام فيما ذكر في عقيدته من بطلان هذا.
وقالوا -إضافة إلى ذلك-: إن القرآن إنما كان ابتداء لفظه ومبناه من جبريل -عليه السلام- أو من محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك استشكلوا عبارة أهل السنة التي نقلها شيخ الإسلام في اعتقاده ألا وهي:(منه بدأ وإليه يعود)(١).
وهكذا لما بنوا عقيدتهم على باطل، لزمتهم هذه اللوازم كلها، فانحرفوا هذا الانحراف كله، وما مثلهم إلا مثل من بنى بيتاً على أساس معوج، ثم أراد أن يبني فوقه طابقاً آخر فجعله -لكي يستقيم مع الأساس- معوجاً مثله، ثم بنى ثالثاً ورابعاً كل منها أعوج من سابقه، فصار المبنى على أقبح صورة وأبشع منظر، يهتز مع كل ريح تعصف به، ولا يستطيع الرسوخ أمام سيول الحق الجارفة ورياحه العاصفة، ولو أن أصحابه اشتغلوا بتسوية الأساس وتقويمه، خير لهم من البناء على أساس ذي اعوجاج، يكون عاقبته الانهيار والدمار. {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ
(١) انظر: مجموع الفتاوى (١٢/ ١٧٨) والاستقامة (١/ ٢١٢).