للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الموقف الخامس: قال ابن القيم -رحمه الله- في الدرجة الثانية من درجات الفتوة (١): «الدرجة الثانية أن تقرب من يقصيك. وتكرم من يؤذيك. وتعتذر إلى من يجني عليك، سماحة لا كظمًا، ومودة لا مصابرة … وما رأيت أحداً قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: (وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه)، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم.

وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسروا به ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه» (٢).

الموقف الخامس: واستمرت هذه السجية ملازمة لشيخ الإسلام حتى حَضرهُ الموت وهو مسجون مظلوم في سجن القلعة قد مُنع عنه كل شيء حتى الدواة والقلم، وفي تلك اللحظات جاءه شمس الدين الوزير بدمشق إذ ذاك، فاستأذن في الدخول عليه لعيادته، فأذن الشيخ له في ذلك، فلما جلس عنده أخذ يعتذر له عن نفسه، ويلتمس منه أن يحله مما عساه أن يكون قد وقع منه في حقه من تقصير أو غيره، فأجابه الشيخ رضي الله عنه: «بأني قد أحللتك وجميع من عاداني، وهو لا يعلم أني على الحق، وقال -ما معناه-: إني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي؛ لكونه فعل ذلك مقلداً غيره، معذوراً، ولم يفعله لحظ نفسه، بل لما


(١) الفتوة: مصطلح أطلقته الصوفية على مقام يتصف فيه صاحبه بالعدالة التي هي جماع الفضائل الخلقية ويتنزه عن الرذائل النفسية، والألواث الطبيعية، ويرجع إلى صفاء الفطرة. انظر: معجم اصطلاحات الصوفية لعبد الرزاق كشاني (ص:٢٦١)، والمعجم الصوفي للدكتورة سعاد الحكيم (ص:٨٧١).
(٢) مدارج السالكين (٢/ ٣٢٨ - ٣٢٩).

<<  <   >  >>