للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال مرة: المحبوس من حُبِس قلبُه عن ربِّه، والمأسور من أسره هواه، ولما دخل إِلى القلعة، وصار داخل سورها نظر إِليه، وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (١٣)} [الحديد:١٣].

قال شيخنا: وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كَانَ فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب النَّاس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرُّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.

وكنا إِذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض: أتيناه، فما هو إِلاَّ أَن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه! وفتح لهم أبوابها في دار العمل! فأتاهم من رَوحها ونسميها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إِليها اهـ» (١).

وهذه الأمور كلها هي التي جعلت أعداءه يحارون فيه، ولا يزدادون منه إلا غيضا وعليه إلا حسداً، ومن ذلك أنه لما كان محبوسا في سجن القاهرة وقد أيس الواشون به من إرجاعه عن معتقده أو إسكاته عن كشف ضلالهم، وأصابهم من ذلك هم وضيق وحيرة، قاموا بإرسال بعض المشايخ التدامرة إليه، وقالوا له: «قد اجتمعنا بهؤلاء القائمين عليك، وقالوا قد بُلشنا به، والناس تلعننا بسببه، وقد قلنا: إنا قد أخذناه بحكم الشرع في الظاهر، فليبصر شيئًا لا يكون علينا ولا عليه فيه رد فيكتبه لنا ونتفق نحن وهو عليه»، فلما قالوا له ذلك قال لهم: «أنا منشرح الصدر، وما عندي قَلَق، وهم برّا الحبس فَلِمَ يقلقون؟» (٢).

وقالوا له: كل هذا يعملونه حتى توافقهم، وهم عاملون على قتلك، أو نفيك، أو حبسك، فقال لهم: «أنا إن قتلت كانت لي شهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان لي


(١) الوابل الصيب (ص:٤٨).
(٢) فصل في تكسير الأحجار لإبراهيم الغياني ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: ١٤٦).

<<  <   >  >>