للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"ما درى أولئك أنَّ هذا المبدأ هو في حقيقته نظرية فرنسية - شأنه شأن مبدأ السيادة - استنبطه الفقهاء [يعني شراح القانون] الفرنسيون قبيل عصر الثورة الفرنسية، لظروف خاصّة بفرنسا في ذلك الحين، وأنَّ هذه النظرية إنَّما كانت بمثابة سلاح من أسلحة الكفاح ضد مبدأ (سيادة المَلِك) الذي كان سائداً في ذلك الزمان، وكان يستند إلى نظرية (الحق الإلهي) [يعني المفهوم الكنسي] التي لم يعد لها في زماننا هذا مكان، اللهم إلا في متحف آثار تاريخ المذاهب والنظريات السياسية.

وما دروا أنَّ مبدأ سيادة الأمَّة - كما قررته الثورة الفرنسية في دساتير الديمقراطيات الغربية - لم تعد بنا حاجة إليه في هذا العصر؛ لأنَّه لم يعد هناك وجود لمبدأ سيادة الملك ونظرية الحق الإلهي اللذين من أجل محاربتهما استنبط الفقهاء الفرنسيون مبدأ سيادة الأمَّة.

وفضلاً عن ذلك فإنَّ هذا المبدأ - كما أثبتت حوادث التاريخ حتى في البلد التي أنشأته (وهي فرنسا) - كان خطراً على الحريات، وأقوى سناد للاستبداد " (١).

ولارتباط فكرة التقليد في (سيادة الأمَّة) عند أولئك بالتقليد في (نظام الاقتراع العام)، علق رحمه الله وعفى عنه على ذلك بقوله: " ليس هناك فيما أعتقد كارثة نكبتنا بها نزعة التقليد الأعمى والأعرج للأنظمة الغربية أفدح من تلك التي نكبتنا بها حين قلدنا الغرب ونقلنا عنه نظام الانتخاب (أو الاقتراع) العام.

لقد وصفتُ هذا التقليد في هذا المقام (بالأعمى والأعرج)؛ لأنّنا أخذنا بهذا النظام في بداية عهدنا بالنظام النيابي البرلماني - طبقا لدستور عام ١٩٢٣م- حين كانت نسبة الأميّة لدينا في مصر تبلغ نحو ٨٠% من عدد السكان، بينما كانت انجلترا التي تعدّ مهد النظام النيابي البرلماني وموطنه الأول، والتي سبقتنا في الأخذ به بعدة قرون، لم يتقرر فيها نظام الانتخاب العام إلا عام ١٩١٨م، أي قبل أن نأخذ به بخمسين سنة! (٢).

وبذلك أغفلنا السُنَّة السليمة القويمة التي يجب أن تسير عليها أنظمة الحكم في طريق تطورها، وهي: سنّة التدرج.

كما أغفلنا النظر إلى النتائج العملية للأخذ بذلك النظام الانتخابي في البلاد التي سبقت لها تجربته، وإلى آراء رجال الفكر السياسي بصدده، واقتصرنا على النظر إلى النصوص الدستورية دون التفات إلى النتائج العملية، وفي ذلك خطأ مبين فاحش مألوف لدى كثير من المقلدين " (٣).

ثم أورد شاهداً تاريخياً إذْ قال: "حين تقرّر في فرنسا لأوّل مرّة نظام الانتخاب العامّ، سنة ١٨٤٨م عدّ ذلك كما يقول الأستاذ بارتملي -: خطئاً كبيراً، إذ أدّى ذلك الخطأ إلى سقوط الجمهورية، وقيام نظام الامبراطورية (ذي الصبغة الدكتاتورية)؛ فمن الخطر (كما يقول ذلك العالم الفرنسي الكبير) أن ندعو عامّة الشعب إلى الاشتراك في الشؤون العامّة، إذا كان أفراده لم يحرزوا بعد قسطاً من النضوج السياسي ومن روح الجماعة le sens collectif " (٤) .

قلت: كل هذا في من زعم أنَّ لمبدأ سيادة الأمَّة صلة بالإسلام!


(١) أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث، د. عبد الحميد متولي:٢٤٨ - ٢٤٩. وقد فصّل ذلك بالأمثلة في كتابه: مبادئ نظام الحكم في الإسلام مع المقارنة بالمبادئ الدستورية الحديثة: ١٧٧.
(٢) وقال في الحاشية تعليقا: " يلاحظ أنَّه حتى عام ١٩١٨م كانت انجلترا تأخذ بنظام الانتخاب المقيد (وهو عكس نظام الانتخاب العام) أي أنّه يشترط في الناخب شرط نصاب مالي أو كفاءة ".
(٣) المصدر السابق: ٢٦٣.
(٤) المصدر السابق:٢٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>