ثالثًا: مسالك استثمار النص (جدلية العلاقة بين المنطوق والمفهوم): فالمقصود الشرعي يؤخذ من"منطوق" النص كما يؤخذ من "مفهومه" إذ قد يكون المعنى مستنبطًا بطريق الفحوى، ولزوميات الكلام، وتداعي المعاني، وهذا معناه، كما يقول الأصوليون: أنه يجب "استثمار" كافة طاقات النص، انطلاقًا من اللفظ، وطرق دلالته على المعنى، عبارة، وإشارة، ودلالة، واقتضاء، ومفهومًا موافقة ومخالفة؛ ومعنى ذلك: أن المعاني المستفادة من النص، نوعان:"معانٍ هُنَّ بنات ألفاظ" تؤخذ من الوضع الأصلي للألفاظ، و"معانٍ هُنَّ بنات معانٍ"!! تؤخذ من "فحوى الكلام" و"بساط التخاطب" ويجب عند قراءة النص مراعاة ذلك ..
رابعًا: التأويل (توجيه النص وإشكالية تعدد المعاني بين "حركة" اللفظ و"منطق" المعنى): قد يحتمل النص "تأويلات مختلفة" فتتعدد فيه "دروب" الفهم، وتتنوع فيه "المعاني" ولما كان "التأويل" المغرض "انحرافًا" بالمقروء، ووقوعًا في "التيه" و"الضلال" فقد تنبه المفسرون القدامى، وعلماء الأصول، وشراح الحديث إلى "التأويل" حين يجور على"المقاصد" فكان لهم "ضوابط"موصولة في جانب منها بـ"قواعد اللسان" وفي جانب آخر بـ"منطق المعنى"تقوم على: - أن"التأويل" ينبغي أن يكون"مُنقادًا" يعضده مرجحٌ قوي من "دليل" صحيح؛ فإذا لم يكن ثمة دليل فلا يجوز صرف الكلام عن ظاهره، كما بفعل الباطنية، قديمًا وحديثًا.
- عدم الخروج عن"سَنن" النص في لغته، وعُرف استعمله، وتحميله ما لا يحتمله، منطوقًا أو مفهومًا، فكل "تأويل" للنص مقبولٌ"ما لم يخرج من اللسان، فإن خرج، فلا فهم، ولا علم".
- أن يأتي"التأويل" ضمن العناية بـ"مراد" المتكلم، و"مقاصد" خطابه، والاحتكام فيه إلى"منطق المعنى" فالتأويل، في الفكر الإسلامي، ليس "فلسفة" للفهم المفتوح، و"التعري عن مأخذ الكلام"كما في القراءة الحداثيَّة للنصوص، بل هو جهد ذهني مقيد بـ"منطق" النص الشرعي ذاته، و"إرادته" من النص، ويكون جهد "المتأول" التردد بين المعاني المتعددة؛ لمعرفة الحكم استنباطًا، وهو ما نبه عليه الإمام ابن تيميًّة، رضي الله عنه، في رده على الباطنية في تأويلاتهم بعض أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم،، فقال:"والتأويل المقبول هو مادل على مراد المتكلم. والتأويلات التي يذكرونها (أي: الباطنية) لا يعلم أن الرسول أرادها، بل يعلم بالاضطرار- في عامة النصوص- أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول، كما يعلم مثل ذلك في تأويلات: القرامطة والباطنية، من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص، وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله، من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب، هو من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد"(درء تعارض العقل والنقل، ١/ ٢٠١).
وبعد، ففي ضوء خصائص النص الديني، قرآنًا وسنة، جاءت قراءة علمائنا، رحمهم الله، له، من حيث هو دينُ الله، وشرعُه، وحلالُه وحرامُه، فكانت قراءة "مضبوطة" و "واعية" لا قراءة"مفجِّرة" للنص، "مهدرة" لسياقه ومقاصده، وقد نقل العلامة الونشريسي في ذلك، وصية جامعة لمن رام قراءة النص الديني وتأويله، تضبط النظر الفقهي الشرعي، فهمًا وتعقلًا، واستخراجًا واجتهادًا، وترجيحًا وتنقيحًا، وتنزيلًا وتفعيلًا، فقال:"ولا تفت بالنص، إلا أن تكون: عارفًا بوجوه التعليل، بصيرًا بمعرفة الأشباه والنظائر، حاذقًا في بعض أصول الفقه وفروعه. واحفظ: الحديث تقو حجتك، والآثار يصلح رأيك، والخلاف يتسع صدرك، واعرف العربية والأصول، وشفع المنقول بالمعقول، والمعقول بالمنقول"(المعيار المعرب، ٦/ ٣٧٧.).
وهذا من الفقه الثمين جدًا، الذي ينبغي أن تُربى عليه نفس المسلم، فيتهيب تأويل "النص الديني" دون أن يملك الأدوات التي تؤهله لذلك، وبدونه يصبح "النص الديني" سوقًا مفتوحًا يدخله من شاء، ليستنبط منه ما يشاء؛ كما في القراءة الحداثية، ومن ثم كانت "إعادة تقويم" الخطاب الحداثي، في تعامله مع النص الديني- وهو ما يقوم على بيانه هذا البحث- عملًا مشروعًا، من الناحية "الدينية"، ومن الناحية "المعرفية" أيضُا؛ لأنه قد طال زمن الغربة والضلال والتيه، وقديمًا قالت العرب في كلامها:"مَن رام التفلُّت، طال منه التلفُّت، ويوشك أن تُرهقه المتاهات، وتتلفه العوائق"!! ولله الأمر من قبل ومن بعد.