هذا ببساطة هو محل النزاع الذي انطلق منه هذا السجال، وهو المحل الذي تتجاذبه جملة من الإشكالات، وليس بخافٍ أن بواعث هذا السجال وذيوله إنما جاءت تعليقاً على مشهد الربيع العربي، وثورة الشعوب المسلمة، ولأجله طرحت مسألة حرية هذه الشعوب المسلمة في قبول أو رفض تحكيم الشريعة، والموقف الشرعي الصحيح من هذا القبول والرفض، ما بين طرف يرفض مبدأ التخيير أصلاً، وآخر يراه حقاً من حقوق الأمة وخياراً يجب احترامه.
(١) الإشكالية الأولى التي تقفز إلى ذهني حين التأمل في مشهد تخيير المسلمين بأحكام الشريعة هو أنها تنطلق من فرضية مفادها أن كون الشعوب مسلمة لا يصح أن يكون تعبيراً كافياً عن رغبتها في تحكيم الإسلام، فكون الشعوب موصوفة بالإسلام شيء ورغبة تلك الشعوب بحكم الشريعة شيء آخر، الأمر الذي يجعل من مسألة التخيير بين الشريعة وغيرها عملية واقعية مشروعة، ومن بدهيات التدين بالإسلام أنه يحتوي في طياته الرغبة في تحكيمه فهذا التحاكم والالتزام ليس مجرد لازم من لوازم الإيمان بل هو واحد من مكوناته الصميمية، فلا معنى إذن في تخيير المسلمين بالتحاكم لشريعتهم إلا أن يكون تخييراً لهم في إسلامهم قبولاً ورفضاً وهو خيار لا معنى له إطلاقاً حين يكون الحديث عن شعوب مسلمة .. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} ..
(٢) تَفهُّم هذه الإشكالية يقود إلى إشكالية أخرى تتصل بمسألة التخيير بين الشريعة وما يضادها، فحين تكون قابلاً بمبدأ التخيير بين الشريعة وضدها، فستلتزم إتاحة المجال لحرية الاختيار ليكون خياراً فاعلاً في الساحة، وبالتالي فلا بأس في مشهد النظام المقبول إسلامياً من إتاحة المجال للدعاية للإسلام والدعاية المضادة له، وإقامة الأحزاب بكافة صورها وأشكالها، وإعطاء المجال لمادح الشريعة وللقادح فيها بالكلام والحديث والدعوة، بل بذل حق إعلان الطعن في الله ونبيه ودينه، كل ذلك لتكون صادقاً في إتاحة المجال للشعوب المسلمة للاختيار الحر وفق معطيات ينصف فيها الباطل من الحق، ويأخذ فيها الباطل حصته من حق الدعوة كحق الحق من غير فرق، ولأجل هذا سبق وأن دارت رحى السجال حول مجال الحريات في ظل النظام السياسي الإسلامي بالنظر إلى "حرية المنافقين"، والكل يعلم نتائج ذاك السجال وما ترتب على الاستدلال بأحوال المنافقين من لوازم باطلة، كفتح المجال للطعن في النبي صلى الله عليه وسلم وشريعة الإسلام والسخرية والهزء بالمسلمين والتآمر على الدولة المسلمة .. الخ، فإن كان المخالف يؤمن بأن الإسلام يُؤمِّن هذا الفضاء الفسيح من الحريات المنفلته، ولا يرى بأساً في فتح المجال للقادحين في الشريعة، فعليه أن يدلل على مشروعية رأيه أولاً، ثم عليه تقديم الإجابات على سلسلة طويلة من الإشكالات، لا أن يتجاوز واجبات الاستدلال هذه بفرض رؤية غير مدللة ولا مبرهنة، وإن أذعن إلى واجب التضييق والحد من هذا اللون من الحريات، فهل التضييق عنده ناتج عن هيمنة القيم الشرعية؟ أم هو ناتج عن حكم الصندوق؟ فإن قبل بهيمنة الشريعة فقد أقر بعلو الشريعة ذاتياً على كل نظام وعدم افتقار تحكيمه في الواقع إلى شرعية بشرية، وإلا فقد جوّز تمدد هذا المجال من الحريات، وعاد على قوله بالتضييق بالنقض.