ونحن نتفهم تماماً أن فرض هيمنة الشريعة في الواقع يحتاج إلى حكمةٍ وعقلٍ وتصورٍ لأحكام الشريعةِ ومعطيات الواقعِ، فالذي حطم الأصنام بمكة يوم الفتح هو من كان يصلي عند الكعبة والأصنام تحيط بها من كل جانب. كما تنفهم أيضاً أن كثيراً من العاملين في الشأن السياسي من الإسلاميين اليوم يعملون في مناخ يستدعي قدراً من المرونة والمناورة واستحضار أحكام الضرورة والحاجة، ومعرفةً بحدود فقه الممكن والمتاح، وهم مطالبون بتقديم خطابٍ سياسيٍ مقبولٍ يلتزم حدود الاستطاعة شرعاً فلا يتجاوزون حكماً شرعياً ممكن التطبيق في ضوء معطيات الواقع، ولا يُلزمون أنفسهم ما لا يطيقون، ويجب على الشباب المسلم أيضاً أن يتفهم طبيعة هذا الخطاب السياسي والحاجة الماسة إليه تحقيقاً للمصالح وتخفيفاً للشر، وأنه لا يلزم أن يكون معبراً عن حكم الشريعة الأصلي، وأن ثمة مجالاً للاجتهاد في مساحات فقه الممكن، المهم أن لا يتم تحريف أحكام الإسلام تحت أي ذريعة وأي مبرر، بل الإبقاء على صفاء الإسلام ونقاء شريعته من التحريف واجبٌ شرعيٌ مقدسٌ. وإذا كان السياسي المجتهد في إصابة حكم الشريعة الأصلي في غير القطعيات منهياً عن ادعاء أنه يطبق حكم الله، ومأموراً بالتصريح بأنه إنما يعمل باجتهاده، فكيف الظن بمن يجتهد في إصابة حكم الشريعة المتعلق بحال الضرورة والاستطاعة، (وإذا أنت حاصرت أهل حصن، أو أهل قرية، فأرادوا أن ينزلوا على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك). نعم قد نتفهم ضروباً من الاجتهاد في العمل السياسي وما يكتنفه من أحكام الضرورة والاستطاعة، لكننا لن نتفهم بحال الإغارة على أحكام الشريعة، وجعل أحكام الاستثناء أصلاً، وفقه الممكن هو صورة الشريعة المثلى.
ختاماً ..
ما أبعد المسافة التي كانت تفصل بين موقع الشريعة من ديمقراطية الأمس، والمسافة التي تفصلها عن ديمقراطية اليوم، فبالأمس كانت الشريعة تمثل مرجعية عليا للمشاركة الديمقراطية، واليوم أضحت مجرد خيار من زمرة خيارات في هذه اللعبة.