للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في التراث الإسلامي لا تعرف الحرية إلا في مقابل الرق، ويطلق الحر حقيقة على غير المُستَرَقِ من الناس، ويطلق مجازاً أو نقلا على المتخلق، بالإباء والشمم على اعتبار أنها، بعيدة من صفات الأرقاء

لكنها لم تعرف كمصطلح حقوقي إلا في الفلسفة الأوربية، ورثها فلاسفة التنوير في مطلع العصر الحديث عن فلاسفة اليونان الأقدمين.

ولا يغض من ذلك ذكرها في بعض كتب علماء المسلمين كالقشيري في رسالته وابن تيمية في رسالة العبودية والسخاوي في فتح المغيث، فإنهم يعنون بها الانفلات من استرقاق الخلق إلى عبودية الله تعالى وهذا بعيد عن المعنى المصطلحي لهذه الكلمة.

أما في الفكر الإسلامي المعصر، فلم أجد مصطلحاً من المصطلحات التي اشتهر القول بأسلمتها أكثر شؤماً على الفكر الإسلامي من هذا المصطلح، فقد بدأت علاقة المفكرين المسلمين معه في الدعوة إلى نبذ الاستبداد السياسي على يد عبدالرحمن الكواكبي.

ثم انتقلت إلى أن تُعتبر مقصداً من مقاصد التشريع الإسلامي على يد الشيخ الطاهر بن عاشور، ثم هو يُستخدم الآن كوسيلة من وسائل انتهاك التشريع الإسلامي.

ومن تتبع أقوال المتحدثين عن الحرية من العلماء والمفكرين الإسلاميين المعتدلين في استخدامه, يجد أنهم يعنون بها: ما يذهب إليه أهل السنة والجماعة من أن للإنسان إرادة وقدرة، فيما يختاره من معتقدات وما يقوم به من أعمال وأن ذلك لا يخرج عن قدرة الله تعالى ومشيئته سبحانه وعلمه، على ما فصله علماء الإسلام في حديثهم عن القدر.

كما يعنون بها: ما من الله تعالى به على المسلمين من رفع الحرج عن الأمة والتيسير عليها في التشريع وكثرة المباحات في مقابل قلة المناهي.

فهم يقولون إن الإسلام جاء بالحرية المنضبظة بضوابط الشريعة الإسلامية، وضوابطُها: كل ما نهى الله تعالى عنه، فمن عمل في نطاق الواجبات والمستحبات والمباحات والمكروهات فهو مستمتع بالحرية التي جاء بها الإسلام قبل الحضارة الغربية والمواثيق الدولية بأكثر من ألف عام.

هذا ما يريده المعتدلون من الكتاب والمفكرين حين يتحدثون عن الحرية المنضبطة

وعند عرض هذه النظرة على الفكر الغربي فإننا لا نجد هناك ما يقاربها فضلا عن أن يتطابق معها.

فالحرية هناك لا تحمل معنى واحداً بل ليس لها مفهوم محدد عند فلاسفتهم ابتداء من سقراط وانتهاء بسارتر، وهذا ما يجعل استخدامها كمصطلح للتعبير عن قيمة إسلامية استخداما خطراً لكونها كسائر المصطلحات الناشئة في بيئة مختلفة تأتينا بكامل أعبائها التي تحملتها عبر تاريخها الطويل الذي لا ينتمي إلينا ولا يمكن أن ننتمي إليه ولا يمكن أيضا أن نفصلها عنه بحال من الأحوال.

ولهذا التباين بين مُراد المفكرين المسلمين المعتدلين من الحرية المنضبطة, وبين مرادات مفكري وطن منشأ هذا المصطلح, لم يتوقف الواقع الثقافي في عالمنا الإسلامي عند استخدام هذا المصطلح كتعبير غير معقد عن قيمة إسلامية، بل تجاوز ذلك إلى انتهاك القيمة الإسلامية لصالح المصطلح الوافد، حيث أدى القول بكونها مقصداً من مقاصد الشرع إلى اعتبار أن لها أحكام المقاصد من حفظ الدين والنفس والمال والعرض والنسل الثابتة باستقراء جميع أحكام الشريعة، ولا يخفى أن مراعاة المقاصد يستعملها الفقيه في فهم النصوص، وتأويلها وصرفها عن حقائقها إلى مجازاتها، كما تستخدم المقاصد في الاجتهاد في أحكام النوازل عند تعذر النصوص على اعتبار أن المقاصد ثابتة بالنص، وأصل الاجتهاد هو إعطاء غير المنصوص حكم ما فيه نص، بل ربما يستخدمها أهل صناعة الحديث في رد بعض الأحاديث دراية.

الحرية ومقاصد الشريعة:

<<  <  ج: ص:  >  >>