للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا وصلنا إلى أن نجعل الحرية مقصداً من مقاصد الشرع تعين أن نعطيَهَا كل هذه المكانة، فنستعين بها على فهم النصوص أو تأويلها، ونجعلها بمثابة الدليل في أحكام النوازل، ونرد بها ما لا يتفق معها من أحاديث كجزء من علم الحديث دراية.

وهذا ما لا يمكن لأمرين:

أحدهما: أن اعتبار الحرية مقصداً للشارع كما يُقدمها عدد من المفكرين الإسلاميين يعني: أن الله أنزل الشريعة كي يكون الإنسان مريداً، أو كي يتمتع بالمباحات، وهذا مالا يمكن أن يستقيم، لأن الشريعة إنما اختص بها الإنسان من بين سائر الكائنات لكونه أهلاً لحمل أمانة التكليف وإنما أهَّله لذلك العقل والإرادة، فكيف تكون الإرادة التي هي مقتضى التكليف بالشرائع مقصداً لها أي للإرادة أيضا؟

فهذا دور لا يستقيم في المنطق بحال من الأحوال.

الثاني: أن المقاصد لابد عليها من أدلة خاصة صريحة قاطعة في دلالتها وهذا ما لا يوجد للحرية في الكتاب والسنة، وسوف يأتي الكلام عن ذلك قريبا.

المهم أن نمضي إلى أن القول بمقصدية الحرية للتشريع أنموذج للإشكالات التي لا يمكن الانفكاك عنها حين نُصِر على أسلمة مصطلح مُعَبَّأ بأثقالٍ لا تمت لنا بصلة.

قمة الخطل في فهم الحرية:

وقد بلغ الخطل بالبعض إلى أن قال إن تحقيق الحرية مُقَدَّم على تطبيق الشريعة، ووجه الخطل في هذا القول مع اجلالنا الكبير لعين قائله ولعلمه: أنه بقوله هذا لن يستطيع تعريف الحرية التي يرى أنها مقدمةٌ على تطبيق الشريعة، لأنه إن عرَّفها بكونها ما قررته الشريعة من إرادة للإنسان وما شرعته من مباحات، فهذه لا يمكن أن تكون إلا مع الشريعة ولا يُمكن أن تكون سابقة لها، وإن أراد بها: الاختيار المطلق غير المنضبط بضوابط الشريعة فالإقرار عليه كفر باتفاق، وإن أراد بها رفع الظلم وتحقيق العدل وإعادة توزيع الثروة فهذه قيم نبيلة أخرى غير الحرية.

والحاصل: أن كلمة: تحقيقُ الحريةِ مقدمٌ على تطبيق الشريعة كلمة أنتجها غلوٌ في هذا المصطلح ولم ينتجها تحقيق علمي، بدليل أن قائل هذه الكلمة قال بعدها: لا طاعة لحاكم يتجاهل مرجعية القرآن، هكذا قال، وعليه يكون الحاكم الذي يحقق الحرية كأولوية مقدمة على الشريعة لا طاعة له، وهذا تناقض يؤكد ما قدمته من أن الغلو في المصطلح هو الذي أنتج مثل هذه الكلمة وليس الرصيد العلمي.

يؤكد ذلك: أن صاحب هذا القول أورده في سياق من الكلمات الاستبدادية والمسيئة لمخالفيه، كوصفه مخالفيه من السلفيين، بأنهم يروجون لثقافة سامة ومسمومة ومضللة ومحرفة تربط الفتنة بالخروج على الحاكم, وأنهم أصحاب ثقافات ميتة، وهذا يعني فشلا ذريعاً في أول اختبار له في تطبيق الحرية التي يدعوا إليها.

ومظاهر الغلو في مصطلح الحرية كثيرة لن أتتبعها هنا لكنني اخترت أقربها عهداً لكونه مثالاً حاضراً في الأذهان، وسوف أنتقل منه إلى الموقف الذي أراه صواباً من هذا المصطلح.

الحرية بين فلاسفة الغرب ودعاة الإسلام:

وبداية القول إن فلاسفة الغرب لا يتفقون في مرادهم بالحرية بل لا يتفقون في مدى إمكانية تطبيقها، لكنهم لا يختلفون في أبرز سماتها عندهم، وهي:

- أن الفرد ليس مسؤولا في أفكاره أو تصرفاته إلا أمام القانون.

- ليس من حق القانون أن يقف في وجه الفرد إلا لمنع الإضرار بالآخرين أو بالمجتمع.

- ضوابط الإضرار بالآخرين أو بالمجتمع لا تحددها اعتبارات شخصية أو عرفية، بل تحددها قواعد قانونية تنطلق من أن الأصل عدم مسؤولية الفرد.

<<  <  ج: ص:  >  >>