للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كل من يختلفون في الحرية من فلاسفة الغرب لا يختلفون في أن هذه هي معالم الحرية سواء وافقوها أم خالفوها، والمفكرون الإسلاميون المناصرون للحرية لا يُقِرُّون هذه المعالم، بل جميعهم يرى أن الفرد مسؤولٌ أمام الشريعة في أفكاره وأفعاله، وأن القانون لا يكون مخالفا للشريعة، وأن معيار الإضرار بالنفس أو بالغير تحدده نواميس إلهية قد تكون معلومة المعاني وقد تكون تعبدية لكن الالتزام بها واجب.

وهذا الاختلاف بين الفريقين -أعني مفكري الغرب والمفكرين الإسلاميين المعاصرين - حتَّم على كل من ناصر الحرية من مفكري الإسلام، أن يُضِيف اشتراط أن تكون الحرية منضبطة بضوابط الشرع.

وحين نرجع إلى ضوابط الشرع نجِدُ أنها كثيرة جداً بحيث يصعب أو يستحيل أن نُقنع غربياً أو مستغرباً بأن مصطلح الحرية الذي وُلِد وتربى عندهم لا يتنافى مع ديننا، اللهم إلا إذا قمنا بتقديم تنازلات كثيرة متتابعة كي نُزَيِّن ديننا في أعينهم، وهذا بالفعل ما نراه مُشاهداً من كثيرٍ من الناشطين الإسلاميين بل ومن الفقهاء المولعين بهذا المصطلح، حتى وصل الأمر إلى إنكار عدد من الحدود والعقوبات الشرعية لا لشيء سوى أنها تتنافى مع الحرية التي اعتبروها مقصداً يحاكمون إليه النصوص الشرعية، كإنكار حد الردة وعقوبة المُجَدِّف والمبتدع ورجم الزاني وتحكيم الأكثرية في مرجعية الدين والسماح للكافرين بالإعلان عن رموز كفرهم في بلاد المسلمين, بل وصل الأمر بالبعض منهم إلى مطابقة الفكر العلماني، بحيث يصعب التفريق بين طرحهم السياسي والطرح العلماني مع رفضهم لهذه التسمية، وآخرون منهم رضوا بما سموه علمانية جزئية.

بين مصطلح الحرية ومصطلح الاستعباد لله:

إنني أدعوا إلى رفض هذا المصطلح وإلقائه عن ثقافتنا كلياً غير مأسوف عليه فهو مصطلح مُشَوَّه مشبوه مُنهِك لإرثنا الديني، إذ لا يُمكن تطابقه معه إلا في أحد حالين:

إما التكلف في محاولة استدعائه، وإما تقديم التنازلات التي تذهب بخصائص الدين أدراج الرياح.

وإذا كنَّا نُريد باستخدام هذا المصطلح دعوة العالم إلى ديننا وإبراز خصائصه ومقوماته فلن يكون هناك أفضل من الاقتصار على المصطلحات الواضحة غير الحمالة وأفضل هذه المصطلحات ما قرره الشرع وعبرت عنه النصوص الشرعية.

فالحق أن يقال: إن الإسلام دين استعباد لله تعالى يخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

وقد يقول قائل: وما المانع أن نريد هذا الأمر باستخدامنا مصطلح الحرية؟

والجواب: أن المانع الحقيقي هو ما قدمته من أن المصطلحات بنات بيئات، فلا يمكن أبدا أن نأتي بمصطلح من بيئته ثم نضعه بيننا إلا واستطاع هذا المصطلح من تلقاء نفسه نسج بيئة مقاربة لبيئته التي نشأ فيها.

وحين نرجع إلى واقع الحركة الفكرية، اليوم بين الإسلاميين وأنفسهم، وبين الإسلاميين والليبراليين نجد أن مصطلح الحرية واضح الأثر فيما يشجر بينهم من مشكلات، وإن لم يكن هو المؤثر الوحيد فيها إلا أن استئصاله من الساحة الفكرية لا شك، سيؤدي إلى نتائج محمودة لاسيما على وحدة الصف الإسلامي.

أمَّا مصطلح الاستعباد لله ففضلا عن كونه المعبِّر عن حقيقة الخطاب الشرعي، فهو أيضا أكثر ألقاً وجاذبية للإسلام حين ندعوا إليه غير أهله، كيف لا، وهو دعوة الله تعالى والاسم الذي ارتضاه لنا والعمل المحدد الذي خلقنا سبحانه وتعالى لأجله، المصطلح الذي حمله آباؤنا إلى مشارق الأرض ومغاربها ففتحوا به القلوب قبل البلدان، وتقدم به رِبعي ابن عامر إلى الهرمزان في شموخ وإباء وهو يقول: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

<<  <  ج: ص:  >  >>