للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهنا نسأل الشيخ ابن منيع، هل هذا نفي أم إثبات؟ نعم يمكن أن يقول قائل بأننا إذا أثبتنا دخول الشهر بناء على الحساب، فهذا إثبات، ولا نقول به، لكن مع ذلك يمكن أن يقال أننا أثبتنا الشهر بعد ثلاثين يومًا من شعبان، وأنتم تقولون بنفي ذلك، أي إن الشهر يستحيل دخوله في هذا اليوم، بل إن دخوله قد تيقن أمس، ولهذا لم نر أن هذا قول معتبر عند السالفين، حتى ولو حملنا كلام السبكي الآتي عليه.

ومن لطيف المسائل المترتبة على هذه، تحديد العشر الأواخر التي يكون تحري ليلة القدر فيها، أو في أوتارها، ويشرع الاعتكاف بدخول أول لياليها، فهل أوتار العشر التي ترجى فيها ليلة القدر هي أوتار العشر الأواخر من الشهر الفلكي، أم من الشهر الشرعي؟ وهل ليلة السابع والعشرين مثلا هي باعتبار الشهر الشرعي أم باعتبار الشهر الفلكي؟ لا أظن أحدًا يقول بأن حساب تلك الليالي معتمدًا على الشهر الفلكي، وإلا لقال قائل بدخول المعتكف ليلة العشرين، إذ قد تكون احتياطا ليلة الواحد والعشرين، وهكذا فقس.

إذًا، نحن نصوم، ونقوم، ونعتبر الشهر الشرعي، وليس للشهر الفلكي عندنا -معاشر المسلمين -أي اعتبار.

فالشهر الفلكي، هو التاسع في السنة الهجرية، بدايته ونهايته مردها إلى أمر واحد وهو الحسابات الفلكية، بينما مرد الشهر الشرعي لأمور مختلفة في المضمون، متغايرة في العلة، أهمها قبول إمام المسلمين أو جماعتهم بيوم ابتدائه، ويوم انتهائه بناء على شهادة شهود أو إكمال العدة ثلاثين، بل والحساب، فإذا تقرر هذا علم أن ثمة مغايرة كاملة بين الشهرين، نعم قد يتفقان، وقد يختلفان، وهذا لا يضيرنا في شيء.

نظائر ذلك كثيرة، وقد عهدنا عند الفقهاء قولهم بلا نكير الطهارة - مثلا - لغة النظافة، وشرعًا هي حالة تمكن الإنسان من القيام بعبادات معينة كالصلاة، وقد يكون ثمة متوضئ غير نظيف لغة، ونظيف لغة غير طاهر شرعًا، فهذان أمران متغايران، وأقوى من هذا مثال آخر، لعل الشيخ ابن منيع والقائلين بمثل قوله يتأملوه، لكن قبل ذلك أحب أن أنقل طرفًا من كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية (١)،


(١) أنقله لا ليكون حاكما على كل كلام عداه، ولكن ليستأنس به في تصوير هذا التحرير، إذ إنه لم يأت برأي جديد في هذه القضية، وكثيرًا ما يساء الظن بشيخ الإسلام ويظن أنه أتى بما خالف به جماهير العلماء السابقين له، وحاشاه، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله، ينظر إلى الأدلة مجتمعة من خلال نظر كلي، وهو بذلك مستقرئ لمقاصد الشريعة عامل بمقتضاها، ومع ذلك هو ناظر في آحاد الأدلة بكل تفصيلاتها، جامع بين دلالاتها ودلالات المقاصد، مثبت أن ثمة لا تعارض بينهما، ثم هو بعد ذلك يبين أن قوله هو قول جماهير السلف والخلف وإن لم ينص عليه أرباب المذاهب المتأخرون، فإذ فعل ذلك بزّ الجميع بتصويره العجيب للمسألة مجال البحث، وبيانه القوي للعلل، والحكم، والمقاصد، مما يظهر وكأنه خالف ما أجمع عليه، أو ما اتفقت كلمة الجماهير عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>