للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَأَيْنَاهَا وَسَمِعْنَاهَا فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إذَا جَرَّبَ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ بِخَبَرِ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّ دَلَالَةَ الْحِسَابِ عَلَى عَدَمِ إمْكَانِ الرُّؤْيَةِ أَنْ لَا يَقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَلَا يُثْبِتَ بِهَا وَلَا يَحْكُمَ بِهَا، وَيُسْتَصْحَبُ الْأَصْلُ فِي بَقَاءِ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مُحَقَّقٌ حَتَّى يَتَحَقَّقَ خِلَافُهُ، وَلَا نَقُولُ الشَّرْعُ أَلْغَى قَوْلَ الْحِسَابِ مُطْلَقًا وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: لَا يُعْتَمَدُ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا قَالُوهُ فِي عَكْسِ هَذَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ الَّتِي حَكَيْنَا فِيهَا الْخِلَافَ أَمَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَلَا وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذِهِ نَقْلًا وَلَا وَجْهَ فِيهَا لِلِاحْتِمَالِ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ) (١)، ويتطرق الشك في قبول هذا التأويل لكلام السبكي القاضي باعتماد الحساب في النفي دون الإثبات، لأن الجمع بين طرفي كلامه يقدح لدى القارئ أنه لا يمكن أن يقول باعتماد الحساب مطلقًا، لا في النفي، ولا في الإثبات، فالله أعلم.

وبكل حال، فإنه ولو قال ذلك صراحة، فإنه اجتهاد غير مقبول منه لتقدم إجماع سابق، ولجريان العمل على خلاف اجتهاده من قبل جماهير العلماء قرنا بعد قرن.

التفريق بين الشهر الشرعي، والشهر الفلكي، هل له نظائر؟

هذا التفريق بين المعنى الشرعي، والمعنى الحسي، أو الحقيقي ومن ثم الحقيقة الشرعية، والحقيقة اللغوية، له نظائر كثيرة في الشريعة، لا تقصر على ما يذكره العلماء من المعنى الشرعي للماهيات، والمعنى الشرعي لها، يوم يقولون مثلا الإيمان لغة كذا، وشرعا كذا، بل يشمل أمثلة تتجاوز المعاني لتشمل بعض الصور العملية، ولست أدري كيف غاب عن الشيخ ابن منيع ومن معه هذا الأمر مع أنه بدهي واضح، إذ نحن لا نقبل أن يحاكم أهل اللغة أهل الشرع في حقيقة الصلاة، ولا في مسمى الإيمان وهكذا.

فهناك صور عملية كثيرة، نظيرة للتفريق بين الشهر الشرعي، والشهر الفلكي، أذكر منها ذلك المثال الذي أرجو أن يتأمله الشيخ ابن منيع ومن يرى برأيه.

إذا زنى رجل بامرأة وهي فراش لغيره، إما زوجة أو أمة، وحملت من ذلك الزنى، ثم مات الزوج، وماتت هي، وبعد أمد ادعى بقية أولادها أن أخاهم هذا لا يستحق شيئا من الميراث، بل طالبوا بنفي النسب عنه لأنه ليس أخاهم، ولا ابنا لأبيهم، بل أبوه الذي زنا بأمهم، ثم استدلوا على دعواهم بما يعرف الآن بنتائج الحمض النووي الذي لا تكاد تخطئ، وأثبت الحمض النووي فعلا أن هذا الولد إنما هو نتاج سفاح بين أمه، وبين رجل آخر غير زوجها؟ فما الحكم؟

الحكم - إجماعًا - أنّ هذا الولد هو أخوهم، ابن أمهم، وأبيهم، يشاركهم في الميراث، ويحمل نسب الأب، لا يملك أحد حرمانه من ذلك!! سبحان الله وكيف نفعل بالحمض النووي ذي النتيجة القطعية التي قطعت بأنه ناتج من ماء رجل غريب؟

ناقش المجمع الفقهي هذه القضية، وحكم في مثل هذه الصورة - متفقًا في ذلك مع مقتضى إجماع العلماء السابقين في لحوق النسب في هذه الحالة - بمقتضى ظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر)!! وقرر أيضًا أنه لا ينفى عنه النسب، ولا يحرم من الميراث إلا بحصول اللعان الشرعي بين الزوجين - وهما في هذه الحالة قد توفيا، فلا مصير إليه -، فإن لم يحصل اللعان الشرعي فهو ابن لهما جميعا!!.


(١) فتاوى السبكي ١/ ٤١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>