وهنا نقول، حاصل ذلك أن الأب الحقيقي الذي خرج الولد من صلبه، والذي ينتسب إليه بحسب علم الأحياء - أو الكيمياء -والبيولوجيا، لم يعترف به الشارع، وكأنما جعل ماءه فاسدًا لا تأثير له، وجعل الأب الحقيقي هو الأب الشرعي؛ الولد للفراش، إذا لدينا - تنزلا - أبوان، الأب الشرعي، والأب الكيميائي البيولوجي، هو في الحقيقة ليس أبا، وليس له اعتبار ولا وزن، ولا حكم، ولا حق.
فإن قال قائل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في نهاية الحديث واحتجبي منه يا سودة، لما رأى من قوة الشبه بين هذا الوليد وبين سعد بن ابن وقاص الذي ادعاه لأخيه، وعدم الشبه بينه وبين من قضى بأنه له أعني عبد بن زمعة والذي به يكون أخًا لسودة -زوج النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا يدل على أنه عمل بالعلم، وهو هنا الأخذ بالشبه، أو في الأقل الأحوال احتاط، فلم لا نحتاط في أمر صيامنا؟
قيل جوابًا على ذلك، إن هذا الجزء من الحديث يؤيد ما ذكرناه فمع أن النبي صلى الله عليه وسلم لا حظ الشبه وربما "غلب على ظنه" بأن هذا الوليد ليس بأخ لسودة، بناء على أمر ظاهر مشاهد - وهو في العموم معتبر في الشريعة - إلا أنه لم يتجاوز حكم النص؛ الولد للفراش وللعاهر الحجر، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر ما يقتضيه الحس وهو الشبه المشاهد، لا ما يقتضيه العلم، فليتنبه لهذا، وسيأتي له مزيد بيان.
وبكل حال، فإن مقصودنا من إيراد القصة هو تقرير أن الشرع ينظر إلى ما لا ينظر إليه العلم وأنه يعتمد على ما هو محسوس، أو معقول اضطرارًا عقلا لا ينفك عن كل عاقل، ولا يحتاج إلى نظر ناظر، ولهذا، فلو أثبت الأطباء والباحثون والعلماء كلهم مجتمعين غير متفرقين على أنه يستحيل أن يكون ذلك الأب أبا لهذا الولد، لقلنا لهم، كلامكم على العين والرأس، لكننا لا نأخذ به، ليس تكذيبًا له، ولا إقلالا من شأن العلم، ولا رغبة في التخلف!، ولكن قضيتنا ليست قضية علمية طبية، قضيتنا قضية شرعية، نحن نتحدث عن حكم الشرع، وأنتم تتحدثون عن حقيقة الأمر، والحكم الشرعي شيء، والحقيقة الواقعية شيء آخر، فكما أننا لم نلزم العلم بأن يكذب نتائج الحمض النووي، ونقول يستحيل هذا لمخالفته الشرع، فلم يطالبنا أصحاب العلم بأن نلغي نتيجة الشرع لصالح العلم، نقول أما شرعًا - وهو الحكم والمرجع - فليس بأب، وأما علمًا أو كيميائًا أو فيزيائًا فالأمر إليكم.
هذا، وقل كذا في أمر الهلال، فثمة شهر شرعي لا دخل له في الشهر الفلكي، لا يجوز لأهل الفلك أن يجبرونا على قبول شهرهم، ولا يجوز لنا أن نجبرهم على قبول شهرنا.