للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وموقف سادس من الإمام أحمد رحمه الله تلميذ الشافعي فقد كان يرفض مبدأ التصنيف والتأليف في الفقه تقديراً للكتاب والسنة، وكان يعتبر ذلك بدعة، وواضعها مبتدع (١)، ونهى أصحابه عن كتابة فتاويه، ويقول لهم: "خذوا من حيث أخذت"، ولم يؤثر عنه تأليف خاص من قوله إلا رسالة (الصلاة) ألفها لإمام مسجد رأى منه تقصيراً في الصلاة (٢)، قال ابن القيم: (ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتاباً في الفقه وإنما دون أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك)، ولم يكن لنهيه رحمه الله تأثير على حفظ مذهبه وأقواله وأجوبته، فشرع أصحابه بتدوين المسائل التي أفتى بها، فهناك مسائل الإمام أحمد لأبي داود، وأخرى لابن أبي هانئ، وأخرى لابنه صالح، وأخرى لابنه عبد الله ... وأخرى، حتى نهيه عن الكتابة عنه حفظوه وبقي، فنفع الله بعلمه -الذي دونه أصحابه- الإسلام والمسلمين، وصارت أقواله مذهباً يذهب إليه طائفة كبيرة من العلماء، أبقاها الله تعالى لنا لإخلاص هذا الرجل وجهاده في ذات الله، وحاله في عجز البيت التالي:

إن تكتبوا نكتب وإن لا تكتبوا ... تأتيكم بمكانكم كتبي

بل لم يكتف التاريخ بتسطير أقواله، ولكن تُوج التاريخ بسيرته العطرة المليئة بالكفاح والجهاد بالحجة والبيان، والمليئة بالابتلاء والامتحان، بل وسطر التاريخ مشهد جنازته العظيمة التي صَدَقَ فيها مقولته الشهيرة، والتي أبقاها الله تعالى لنا على مدار التاريخ كما بقي علمه ومذهبه، وصارت مثلاً للعلماء لا ولن ينسى وهي: (بيننا وبينكم يوم الجنائز) (٣)؛ لعلمه أنه على الحق، ولصدقه مع ربه، وثقته به، وإخلاصه له، فحقق الله له مناه، وخلد ذكره، ونصر به السنة، واستحق لقباً لم يسبقه عليه أحد: (إمام أهل السنة)

قال ابن كثير معلقاً على مقولته تلك (وقد صدق الله قول أحمد في هذا، فإنه كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي دؤاد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته، ولم يتلفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان ... ) (٤).

يا قائلاً قصُرَت في العلم نُهْيَتُهُ ... أمسى إلى الجهل فيما قال ينتسِبُ

إنَّ الأوائل قد بانوا بعلمهم ... خلافَ قولِك قد بانوا وقدْ ذهبوا

ما ماتَ منا امرؤ أبقَى لنا أدباً ... نكون منه إذا ما مات نَكتِسبُ


(١) سرد ابن القيم في الطرق الحكمية روايات الإمام أحمد الواردة في ذلك، ثم وجه رأي الإمام أحمد، وفصل القول في المسألة، فليراجع ص٤٠١.
(٢) أنكر الذهبي أن تكون هذه الرسالة من تأليف الإمام أحمد، والصواب عكس ذلك، كما هو مسند عنه في الطبقات لابن أبي يعلى، وقد أشار لذلك الشيخ بكر أبو زيد في المدخل المفصل.
(٣) تهذيب الكمال (١/ ٤٦٧)، والبداية والنهاية (١٠/ ٣٤٢)، وسير أعلام النبلاء (١١/ ٣٤٠).
(٤) البداية والنهاية (١٠/ ٣٤٢)، ولشيخ الإسلام تعليق على عبارة أحمد يرجع إليها في مجموع الفتاوى (٤/ ١١).

<<  <  ج: ص:  >  >>