وهكذا بقية القرون التالية لم تخل من أولئك العلماء الأخفياء يدل على درجة إخلاصهم، شهرة كتبهم، وكثرة طباعتها، وقبول العالمين لها، أينما تتجه إلى بلد أو مكان تجد الكتاب، فهذا البخاري يصنف صحيحه الذي زاحم موطأ مالك ليبقى ذكره ليس بين العلماء فحسب بل بين العوام والصغار، ولا يزال العلماء من بعده يلهجون باسمه أو صحيحه في كتبهم، ودروسهم، ومحاضراتهم، وخطبهم، واجتماعاتهم، لا يكاد يخلو شيء منها من لفظة:(رواه البخاري في صحيحه، أو أخرجه البخاري، أو صححه البخاري، أو ضعفه البخاري ... )، ولذا لما علم رحمه الله أثر الإخلاص وصلاح النية في بقاء الكتاب وقبوله لدى الناس صدر كتابه بحديث (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ... ) فكان هذا الحديث أول حديث في كتابه مع غرابة إسناده كما هو مقرر في علم المصطلح، قال ابن بطال:"قال لي أبو القاسم المهلب بن أبي صفرة: وإنما قدم البخاري، رحمه الله، حديث"الأعمال بالنيات" في أول كتابه، ليعلم أنه قصد في تأليفه وجه الله، عز وجل، ففائدة هذا المعنى، أن يكون تنبيهًا لكل من قرأ كتابه، أن يقصد به وجه الله تعالى كما قصده البخاري في تأليفه"(١).
قلت: ولعل هذا الملحظ انتبه له العالم المحقق أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) فصدر كتابه بهذا الحديث كصنيع البخاري، فانطبع إخلاصه في التأليف على الكتاب حتى رأينا من شأنه عجباً يندر له النظير، ليبقى هذا الكتاب شامخاً بين العلماء والعوام على حد سواء، بل لو قيل إن أشهر كتاب بين العوام اليوم هو رياض الصالحين لم يكن ذلك بعيداً، ولا يكاد يخلو مسجد من المساجد إلا وفيه "رياض الصالحين" تجده شامخاً في أحد الرفوف بجانب القرآن الكريم، وما من إمام مسجد إلا وقرأ على جماعته هذا الكتاب كله أو بعضه، وقد طبع آلاف الطبعات، حتى قيل:(ما من دار نشر إسلامية إلا وطبعت هذا الكتاب).
وتستمر سلسلة عجائب الإخلاص في التأليف والكتابة بعد أولئك الأخفياء ليرينا التاريخ أعاجيب أخرى فجر فيها الإخلاص كل القيود ووسائل الحصار والتضييق على التأليف، فهذا أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله يسجن ويمنع من نشر علمه الغزير بين العالمين، ويمنع عنه في سجنه المداد والكاغد.
ويشاء الله أن يخرج علم ذلك الجبل من خلف كل تلك السدود، ليحفل الإسلام والمسلمين ببحور من العلم في فتاويه التي كتبها في سجنه، لتجمع بعده في قرون ويطلق عليها:(مجموع فتاوى ابن تيمية) ما من عالم أو طالب علم إلا وفي مكتبته نسخة منه، وصار مجموعه مورداً عذباً للفقهاء والأصوليين والمحدثين وعلماء العقيدة ... وكل الباحثين، والدعاة والمربين، قد ضرب في كل فن وعلم وباب بسهام كثيرة ..
(١) شرح صحيح البخاري لابن بطال (١/ ٣١) وقد تكلم الشراح في سبب تصدير البخاري صحيحه بهذا الحديث مع أنه يخالف الترجمة ظاهراً "باب كيف كان بدء الوحي" فراجع شروح صحيح البخاري، ومنها فتح الباري لا بن حجر وعمدة القاري للعيني، وغيرهما