للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تلك بعض نماذج من كتب أهل العلم وأقوالهم العلمية، والتي حملتها القافلة وأبقاها لنا التاريخ، ونفع الله بها الأمة، لم نرم من ورءاها الحصر، ولم نقصد القصر، وإلا فالتاريخ الماضي والحاضر مليء بالنماذج الجديرة بالذكر، ولكن شهرة تلك النماذج وقبولها لدى الناس تستوقف المتأمل، وتثير العجب، ومن رام لعلمه البقاء فليكن لله، وأجدها فرصة أن ألخص أبرز عوامل ذلك البقاء، نستوحيها من أقوال أولئك الأخفياء، ووجود كتبهم إلى يومنا هذا، ومنها:

أولاً: الإخلاص لله في التأليف والفتوى، فإنما الأعمال بالنيات، وفيما سبق من التقرير، كفاية عن التكرار، ومن روائع تعليقات وتوقيعات ابن القيم في إعلام الموقعين ما سطره بعد نقله لكلام الإمام أحمد رحمه الله حين قال: (قال -أي الإمام أحمد- لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن تكون له نية فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور، والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، الثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته، الرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس، الخامسة: معرفة الناس. وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة، فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه) ثم بين بعد ذلك منزلة النية من الفتوى فقال: (فأما النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يبنى، فإنها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابع لها يبنى عليها، يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يستجلب التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة، فكم بين مريد الفتوى وجه الله ورضاه والقرب منه وما عنده، ومريد بها وجه المخلوق ورجاء منفعته وما يناله منه تخويفاً أو طمعاً، فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة وبينهما في الفضل والثواب أعظم مما بين المشرق والمغرب، هذا يفتي لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر ورسوله هو المطاع، وهذا يفتي ليكون قوله هو المسموع وهو المشار إليه، وجاهه هو القائم سواء وافق الكتاب والسنة أو خالفهما فالله المستعان، وقد جرت عادة الله التي لا تُبدل، وسنته التي لا تحول أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويُلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبِغضة ما هو اللائق به، فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت والبغضاء ... ) (١) إلخ.

ثانياً: أن يكون التأليف فيما الناس بحاجة ماسة إليه، تُحل فيه بعض الإشكالات، أو تبين من خلاله الأخطاء والضلالات، أو تقرر فيه ما يخشى اندراسه من أولى المهمات، كتقرير التوحيد وتصحيح العقيدة، وهذا من أهم عوامل قبول الناس لـ (كتاب التوحيد)، علاوة على الإخلاص.

ثالثاً: بناء المؤُلَّف على الكتاب والسنة، بمفهوم سلف الأمة، وعلى حسب ما يقرره أهل التحقيق من أهل العلم، وكل كتاب أو فتوى لا تُضَمّن فيهما الكتاب والسنة، ولا يبنى على القواعد الشرعية، والأصول المرعية فهو خل وبقل (٢).

قال ابن تيمية رحمه الله: (فدين المسلمين مبني على إتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته ويوالي عليها ويعادي غير النبي صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون) (٣) أ. هـ، ونقل ابن تيمية عن الجنيد: (علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن).

هذا هو الإخلاص وأثره على بقاء الذكر، وظهور ثمرة علم العالم، وهو مطلوب شرعاً في كل عمل وليس في التأليف والفتوى وطلب العلم فحسب، وإنما خصصت الحديث عن الإخلاص في التأليف والفتوى والدعوة وطلب العلم حثاً لطلاب العلم والعلماء عليه، ولتذكير كل مؤلِّف به إن رام لمؤلفه وعلمه النفع والبقاء، وهو عنوان هذا المقال؛ إذ هم من أحوج الناس إليه، ولم نقصد بالمقال تتبع أثر الإخلاص في كل عمل صالح سوى التأليف، فإن هذا مما يعجز الحال والوقت من استيعابه، والنماذج فيه قد لا تنحصر، وله وقفة خاصة مستقلة.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(١) إعلام الموقعين (٤/ ١٩٩ - ٢٠٠).
(٢) أصل هذه العبارة لشعبة قالها في كل حديث يروى بدون سند رواها الخطيب في الكفاية عن أنه كان يقول: «كل حديث ليس فيه حدثنا وأخبرنا فهو خل وبقل».
(٣) مجموع الفتاوى (٢٠/ ١٦٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>