ولعل الذي عمق هذا التوجه: كون كثير من المنتمين لهذا التيار قليلي الاحتكاك والمعاملة لهؤلاء المخالفين في الملة، إما لندرة وجودهم في ديارهم، كلا الفريقين، أو لتعمدهم التباعد عنهم، امتثالا للوصايا النبوية الناهية عن الإقامة بين المشركين، ومجامعتهم في المساكن. وقد لوحظ في الذين تعرضوا لمثل هذا الاحتكاك، بسبب السفر والإقامة في الغرب، أو غير ذلك: أن كثيراً منهم كانوا أقل حدة.
في حال الفرق كالشيعة والصوفية، فإن المفاصلة والبراءة لم تكن بأقل درجة عما سبق تجاه المخالفين في الدين، خصوصا مع تلبس طوائف من هاتين الطائفتين بأعمال، هي من صريح الشرك بالاتفاق. كذلك فإن النصوص المحذرة من البدعة، القاضية بحرمان المبتدع من التوبة، ومن ورود الحوض النبوي، يضاف إلى ذلك: الأقوال والمواقف الحاسمة في الهجر، التي وردت عن الأئمة تجاه المبتدعة الأوائل، كالمرجئة والمتكلمة. كل ذلك أوجد مستنداً شرعياً في معاملة هذه الطوائف بتلك الطريقة؛ بالتباعد عنها وعن رموزها، والإحجام عن التعاون والمشاركة، بله الظهور معاً في محفل واحد، ففي تقديره: أن فعل أي شيء من هذا، يعد تنازلا وتزكية، ويعني بالضرورة التهاون في أمر البدعة.
في الحين ظهرت مذاهب أوربية مستوردة، انتشرت في البلاد الإسلامية، هي: العلمانية، والليبرالية، والعصرانية. اتخذ التيار السلفي منها موقفا لا يقل وضوحا وحسما عما سبق، وعاملها بالطريقة نفسها، وربما زيادة؛ كونه رأى فيها خطراً ماحقاً؛ إذ الذين يحملونها أبناء الجلدة، يروجون للأفكار الإلحادية، المعادية للدين في بلاد المسلمين، بقصد التغريب، ونقل أخلاقيات الغرب إليها، ولهم في ذلك ترتيبات وخطط، هم في واقع الأمر رسل الغرب، والغرب يساندهم ويعينهم.
والعصرانيون منهم خصوصاً، وإن خلصوا من تهمة الانتماء الغربي، غير أنهم ربما كانوا أشد خطراً؛ إذ منهم من هو منتسب للعلم الشرعي، وفي هيئة دينية، وهو يمارس تحريف الكلم عن مواضعه، تحت غطاء حاجة العصر، ويسر الشريعة.
* * *
تلك المواقف كانت معلنة غير خفية؛ إذ من استراتيجيات التيار: الوضوح والتجلية، حتى يتميز الحق من الباطل، فيستبين سبيل المجرمين من سبيل المؤمنين. وذلك الهدف الأكبر لا يتحقق إلا من طريق المصارحة والمطارحة، ولو بالتجريح، وغير هذا ليس بممكن؛ إذ يتسبب في تعمية الحق والصواب عن الجموع العامة من المسلمين، الذين لا يميزون بين الاتجاهات بأنفسها، إلا بإرشاد وتوجيه، وهذه إن لم تصارح، وتوضح لها الحقيقة، فإنها لن تهتدي، وسرعان ما تضل طريقها. والمؤمن الحق هو الذي لا يحابي في دين الله تعالى، ولا يداهن في بيان الحق، والنصوص في هذا المعنى كثيرة جداً، في خطابات الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ، ويعرض عن مداهنة الكافرين.
كان التيار متميزاً جداً، في كل شيء؛ في خطابه، ومصطلحاته، وأفكاره، وتوجهاته، وأهدافه، وإعلانه وإسراره، واضحاً على محجة بيضاء، ليلها كنهارها، بأفكار ومبادئ يقاتل دونها قتال الأسد، ويصونها بكل ما يمكن، لا يتردد في التضحية بكل شيء من أجل ذلك الهدف.