عاش لحظة استغراق تام، وفناء كلي في مبادئه وأفكاره، لم يكن يسمح لأحد بأن يرتع حولها بشك أو ريبة، وإلا فإن ما سيأتيه سيكون قاسياً له ولغيره من بعده، وقد تسلم زمام النصوص من الكتاب والسنة تفسيراً وشرحاً، وأعاد للصحيح هيبته، فتفرد بنشر هذا المبدأ وعمل به، فلا يحتج في شيء إلا بالصحيح دون الضعيف، وفرض فهم السلف الصالح على النصوص، وحاكم إليه من حيث المنهج والأصل، وبهذا تملك زمام الحقيقة الشرعية، فهابته التيارات الأخرى، وتحاشت سطوته، ومن رام الوقوف والمعارضه لم يحسد على ما ينزل به، فالأحظى بنصوص الشريعة، كان الأحظى بالحقيقة، الأحظى بالهيمنة على ساحة الفتوى والتعليم.
وهكذا انتشرت السلفية في أصقاع الأرض، فكثر أتباعها الذين يؤمنون بمبادئها في الاعتقاد والفقه، حتى وجدت لها أنصاراً في أقصى الأرض، يخلصون لها باعتبار أنها تمثل الإسلام الصحيح المنزل، بل لقد أوجدت أنصاراً لها ومتعاطفين داخل التيارات الإسلامية الأخرى، المناوئة بدرجة أو أكثر. وتوارى الآخرون، وهم يشعرون بالعجز عن مكافحة هذا التيار، وهو يستدل بالنصوص العارمة في بيان صحة مسلكه وفتاواه، وفساد مسالك وفتاوى الآخرين، في المسائل المختلف عليها.
* * *
ذلك الوضوح والحسم والصرامة والنجاحات، بدا وكأنه في حالة أفول منذ أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، ربما ظهرت بوادر التغير قبل ذلك من قريب، لكنه لم يظهر جليا إلا منذ ذلك الحين.
لقد تبدلت مواقف جناح في هذا التيار، كان له التأثير الواسع، وتبدلت جذريا في بعض المواضع، بذريعة المراجعة والتصحيح، تحت مطارق الاتهامات الآتية من الاتجاهات والقوى، التي حملت التيار وزر ما حاق بالمسلمين من أذى، جراء ضرب برجي التجارة العالمي بنيويورك.
وأول وأكبر ما لوحظ في هذا، تغير الموقف من الآخر، المخالف في الملة أو الطائفة أو الفكر من المفاصلة التامة والبراء التام إلى غير ذلك، لا نقول إلى الولاء التام، لكن إلى التداخل والتقارب، والتفاهم، والمشاركة، والتعاون، ونحو ذلك مما يعني إلغاء الطريقة القديمة؛ الحدة والقطيعة.
لم يكن هذا التغير معزولا عن المستند الشرعي، كما في الأول، فإن البحث والتنقيب، كذلك: قبول السماع من المخالفين، وتفهم مواقفهم، والجلوس إليهم. كان له دور في هذا التغير. والحامل على كل ذلك هو محاولة التخلص من التهم الموجهة تجاه التيار، ومعالجة الأخطاء، وإعطاء صورة مخالفة عما بدا عليه العقود الماضية.
صعب على التيارات الأخرى تقبل هذا الوضع الجديد لهذا الجناح من التيار السلفي، ففي كثير من الحالات كان يرجح أنه موقف سياسي مصلحي، لا يكشف عن حقيقة النوايا. هذا الظن عمق لديهم النظرة السلبية تجاهه، "ففي الماضي كان يمارس دور الوصاية الدينية، والتبديع والتكفير، واليوم يمارس دور المتقرب المعتدل الوسطي، إنه تحايل سياسي في أحسن الأحوال" .. هكذا يتهامسون، وفي بعض الحالات يعلنون. ومع ذلك فلسان حالهم، وأحيانا مقالهم: دعوهم، فإن ما نجنيه نحن من هذا التوجه الجديد، أكبر مما يحصدونه لفكرهم ومذهبهم.
في الوضع الجديد لهذا الجناح، برز التفصيل في أنواع الكافرين، وما يستحقه كل نوع من البراء، فليس المحارب كغيره، وللذمي حقوقاً، وكذا المعاهد. وقد كان غائبا لا يكاد يعرفه إلا المختصون.
والتعامل مع المبتدع والموقف منه، أمر مصلحي، فحيثما كانت المصلحة فثم الحق، فليس الهجر في كل الأحوال بنافع أو حتى مشروعا، وينبغي التفريق بين صاحب البدعة، والعامي إذا قارف بدعة.