وفي أبناء الجلدة، المعجبين بالغرب، يجب ألا يساء الظن بهم كلياً، وألا ينظر إلى ما يروجونه ويدعون إليه، على أنه تغريب وإفساد. فهم مسلمون، وكثير منهم يقصدون التطوير وارتقاء الأمة، فطائفة مما ينادون به، هو من المباحات الجائزات، كقيادة المرأة للسيارة، وعملها خارج البيت، وممارسة الرياضة.
والعصرانيون لم يكونوا مخطئين في كل حال، فكثير من فتاواهم قد ثبت صدقها، فهاهم الذين كانوا يرفضونها، ويجعلونها من التحريف في الدين، هم اليوم يأخذون بها، وينصرونها للتيسير الذي فيها.
وفي ظل هذا الانقلاب في الموقف، ظهرت حالة جديدة، منسجمة تماما مع هذا التوجه، فإذا كان الموقف الفارط، موقف المفاصلة التام، يستدعي التميز في كل شيء، حتى لا يختلط الحق بالباطل، فالآن لا معنى لهذا التميز، وقد اعتدلت النظرة وتحسنت تجاه المخالفين، بسبب ذاتي لا غير، وعليه فلا مانع من التوافق في الأطروحات، فتكون القضية واحدة، والهم مشتركا في مسائل عديدة، كالوحدة الإسلامية، ومواكبة العصر، واعتبار حاجة التطور، وهذا التوافق في المواقف يحمل رغما على التوافق حتى في نوع الخطاب، والمصطلحات، وأسلوب الدعوة، والفتاوى ونحوها.
هكذا بدأ التداخل بين هذا التيار والتيارات الأخرى، وإن شئنا الدقة، منذ هذه اللحظة بدأ في موافقة التيارات الأخرى في مصطلحاتها وأساليبها، وفتاواها، فلم يحصل تقارب بالمعنى الدقيق للتقارب؛ هذا يقترب من هذا، وهذا من هذا، يلتقيان جميعا في المنتصف .. كلا، بل ذلك الجناح من التيار السلفي هو الذي كان المتقرب، المتودد، الذي تخلى عن مصطلحاته، وركب مصطلحات الآخرين.
- فبعد أن كان يتحدث عن عداوة الكافرين للمؤمنين، صار كلامه عن التعايش، والسلام، والمشتركات، واحترام قرارات الأمم المتحدة.
- وبعد أن كان يتحدث عن بغض الكافرين، صار يتحدث عن لزوم محبتهم فطرياً وإنسانياً.
- بعد أن كان يحذر من بدع التشيع والتصوف، صار يقرر أن ثمة أموراً مشتركات بيننا.
- بعد أن كان يتحدث عن خطورة تغريب المرأة، وأدوات ذلك، غدا يكلمنا عن ظلم المرأة.
- بعد أن كان يقرر وجوب خلو المعاملات المالية من أي شائبة للربا والمحرمات، بدا يفصل ويقرر مقدار المحرم ونسبته في المعاملات، وعليه يبني الفتوى.
وأشياء أخرى لا يحصيها المقام، فهذه النظرة الجديدة ولد موقفاً جديداً، لقد دخلت تيارات كثيرة في نطاق الصداقة مع هذا الجناح من التيار السلفي، فنشأت بينهم مودة وإعجاب، كانت من جانب هذا الجناح أظهر وأكثر. وفي المقابل ساءت نظر بقية التيار لهذا الجناح، فأكثرت من العويل عليه، والتحذير من مسلكه، واعتباره منقلباً على المنهج نفسه، ذلك ولد موقفاً مضاداً حمله على الجفاء إلى حد الامتعاض، بل وفي بعض الحالات القطيعة والهجر.
فبعد أن كان الهجر بين التيار والتيارات الأخرى، إذا بهذا الجناح يجافي بني مذهبه، ليصل ويلتقي مع الذين كانوا محل هجره وقطيعته بالأمس.
ما كان يخافه التيار بالأمس قد وقع .. انتهى عهد التميز، خصوصاً مع سكوت بقية التيار الملتزمين السنة الأولى، عن الكلام في كثير من القضايا، إما حذرا وإما كسلا ويأسا. وهكذا صار كثير من الناس لا يفرقون بين سلفي المنبت والمدرسة، والصوفي، والليبرالي، والعصراني، فكلهم يتكلمون في القضية الواحدة، التي كانت محل نزاع وتنافر وهجر، كلمة رجل واحد، بلغة واحدة، وهدف واحد، وأسلوب ومصطلح واحد .. حصل التداخل.
ما فرح أحد بهذا مثلما فرح الآخرون؛ إذ رأوا في هذا المسلك قضاء على سطوة التيار في فهم الإسلام وتفسير النصوص، وخدمة لأهداف لطالما ضحوا من أجلها، في قضية بدت لهم وكأنها خاسرة، هي اليوم تخدم من قبل التيار المهيمن.