للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد كان من الحجج: أن الوضع الراهن يحتاج إلى مزيد من اليسر، وإلا فإن الناس ينفرون من الدين، ويبقى بلا أنصار. ونكون بذلك جنينا على الدين.

لكن البقية رفضوا هذا التحليل، ورأوا أنها فرصة فوتت وضيعت، فحيث كافح هذا التيار ليقول كلمة الحق جلية، وجاهد من أجلها وضحى، فلما انجلت الأمور، وصارت الكلمة ميسرة، والحرية واسعة، والناس في عطش، واستعداد لصعود الجبال، لما يجدونه من ألم الروح وعذاب البعد عن الله تعالى، إذا بهؤلاء الميسرين المجددين يمتطون التعمية، والإغماض في المواقف، فصاروا كمن يشكوا ظلام الليل، ومشقة السير فيه، فلما تجلى له النهار عن شمس ليس دونها غيم: سكن، فلم يتحرك، وإذا ما تحرك، فللتخفي عن الأنظار.

كثير من المراقبين يرون أن السلفية بكافة تياراتها، الملتزمة بالطريقة الأولى، والسائرة في طريقها الجديدة، فوتت على نفسها فرصة استغلال حرية الكلمة، والفضاء المتاح، المتصل بأجزاء العالم كله، لِبَثِّ رؤيتها ومذهبها، مع شدة حاجة الناس إليها، في ظل التخبط الذي يعيش فيه العالم.

فأما الملتزمة فسكوتها غير المبرر، ولو كانت تبررها، أضاع عليها الفرصة، وأما المجددة فتركها لمصطلحها ونوعية خطابها إلى نوعية ومصطلحات الآخرين، خدم مصلحة وأهداف الآخرين لا مصلحتها، إلا إن كان منها من تنكر كليا للمذهب الأول، فذلك أمر آخر.

ولا يزال الناس، يعظمون الصراحة والوضوح، ويمقتون التعمية والغبش، ويعتقدون أن كل من كان واضحاً صريحاً، فهو الجدير بالاحترام، والاتباع كذلك.

وفي المذهب السلفي كل شيء يمكن إبرازه، وتوضيحه من غير خجل، ولا الخوف من النقد، فهذا المذهب هو الذي يرجع بالفقه إلى الصحابة والقرون المفضلة، وهؤلاء هم أولى الناس بمعرفة الإسلام وتفسيره كما أراد الله تعالى، وهكذا فإن حقيقة المذهب السلفي: أنه التفسير الصحيح للإسلام، بشرط أن يلتزم المنتسبون إليه فقه الصحابة، وإلا فالألقاب لا تقدم ولا تؤخر.

لم يكن الكلام السابق نقداً، بقدر ما كان عرضاً لواقعة وقعت، فالموقف السلفي الأول عليه، في بعض الأمور، ما على التالي الجديد، فقد أصاب وأخطأ، وإن كان صوابه أكثر، وإذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث، وإن كان ذلك لا يمنع من الفحص والبحث، لكن النقد يتجه على الطريقة التي تحكم على نفسها بالغياب، عندما تترك لونها وتلون نفسها بألوان الآخرين، وتستبدل صورتها بصور الآخرين، فتضعها في إطار تصنعها، وما يصنع الناس بالإطار، وإنما العبرة في الصورة.

إن استعمال المفاصلة التامة الحادة في كل مقام، مع جميع المخالفين، باختلاف أنواعهم وأقسامهم خطأ جلي محض، وتعطيلها كلياً كذلك هو خطأ، والحكمة: معرفة متى ينبغي تعطيلها كلياً أو جزئياً، ومتى يمكن إعمالها كلياً أو جزئياً. وصفتها موجودة في القرآن والسنة والسيرة.

وتميز أهل الحق بكل ما يميز ويظهر الحق الذي عندهم أمر واجب، وإلا فإنه يضل ولا يهدي، فإذا ما انماع أحد في أحدهما (= المفاصلة التامة، أو تعطيل المفاصلة كلياً) فإنه يضر ضرراً بالغاً.

إن الكلام في هذا كثير وطويل، وحسبي أني ألقيت حملاً كان ينوء به قلبي وصدري، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

ثمة قضية أود التحدث عنها منذ مدة .. عن هذه النقلة الفكرية، الثقافية، الدينية الظاهرة، الحادثة، الجارية في بنية المجتمع .. التي بدت أثرا عن التغيرات والتداخلات في المواقف الشرعية للاتجاه السلفي، وغلبة رؤى ومفاهيم اتجاهات أخرى مختلفة، أتيح لها استغلال الظرف أحسن الاستغلال.

<<  <  ج: ص:  >  >>