للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلتُ: جميع ما تقدّم من نصوص الوحيَين، وكثيرٌ غيره ممّا يقرّر قيام الشريعة الغرّاء على اليُسر ونفي الضرر، ورفع الحَرَج، فهِمَه الميسّرون على غير وجهه، وحمّلوه ما لا يحتمل، متعنّتين في توجيهه لنُصرة شُبهَتهم القاضيةَ بجَعل التيسير في الفتوى منهاجاً رَشَداً، وفيما يلي نقضُ غَزلهم، وكشف شبههم إن شاء الله:

أوّلاً: ثمّة فرقٌ لغويٌ بين اليُسر والتيسير، فاليُسر صفةٌ لازمةٌ للشريعة الإسلاميّة، ومقصدٌ من مقاصدها التشريعيّة جاء به الكتاب والسنّة، وأنزله النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والسلفُ الصالحُ منزلَتَه، أمّا التيسير فهو من فِعل البشر، ويعني جَعلَ ما ليس بميسَّرٍ في الأصل يسيراً، وهذا مَوطِنُ الخَلل.

ثانياً: إن اختيار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للأيسر في كلّ أمرين خُيِّرَ بينهما، كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم فيه أربع نكات لطيفةٍ:

النكتة الأولى: أنَّ الاختيار واقع منه - صلى الله عليه وسلم - فيما خُيّر فيه، وليس في كلّ ما أوحيَ إليه أو كُلّف به، هو أو أمّته، ومثال ذلك الاختلاف في صيَغ الأذان، وتكبيرات العيد، وما إليه حيث لا يعيبُ من أخَذ بهذا على من أخذَ بذاك من العلماء، لثبوت الروايات بالأمرين كليهما.

والثانيّة: تقييد التخيير بما لم يكُن إثماً، ولا شكّ أنّ العدول عن الراجح إلى المرجوح، أو تعطيل (ومن باب أولى رد) ما ثبت من الأدلّة الشرعيّة إثمٌ يُخشى على صاحبه من الضلال، فلا وَجه لاعتباره من التيسير المشروع في شيء.

والثالثةُ: أنّ التخيير المذكور في الحديث يُحمل على أمور الدنيا لا الدِّين، وهذا ما فهمه أهل العِلم قَبلَنا، وقدّ أمِرنا بالردّ إليهم، ومنهم الحافظ ابن حجر، حيث قال رحمه الله في الفتح: (قولُه بين أمرين: أي من أمور الدنيا. لأن أمور الدين لا إثم فيها ... ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قِبَل المخلوقين واضح، وأمَّا من قبل الله ففيه إشكال؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائِزَين) [فتح الباري: ٦/ ٧١٣].

والنكتة الرابعة والأخيرة: أنّ هذا الخبر ما لم يُقيّد بما سبق سيكون معارضاً باختيار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الأشقَّ على نفسه، كقيامه الليل حتّى تتشقق قدَماه مع أنّ الله تعالى قد غَفَر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال الحافظ في الفتح: (لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى مع الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلاً، وبين أن لا يُؤتِيَه من الدنيا إلا الكفاف، وإن كانت السعة أسهل منه، والإثم على هذا أمر نسبي، لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له) [فتح الباري: ٦/ ٧١٣].

ثالثاً: لا تكليف بدون مشقّة، وإن كانت المشقّة الحاصلة بكلِّ تكليفٍ بحَسَبه، وهي متفاوتة، فإذا جاز لنا تخيّر أيسر المذاهب دفعاً لكلّ مشقّةٍ، ترتّبَ على ذلك إسقاط كثيرٍ من التكاليف الشرعيّة

قال الشاطبي رحمه الله: (المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً) [الموافقات: ٢/ ١٢٨].

وقال الإمام شمس الدين ابن القيّم رحمه الله: (لو جاز لكل مشغول وكل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب واضمحل بالكلية) [إعلام الموقعين ٢/ ١٣٠].

<<  <  ج: ص:  >  >>